قراءة في كتاب (مدن متمردة: من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر) لديفيد هارفي الصادرة ترجمته عن (الشبكة العربية للأبحاث والنشر) ..

مدن متمردة: من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر الحق في المدينة ليس مفهومًا جديدًا يطرحه ديفيد هارفي لأول مرة في كتابه هذا، فقد سبقه هنري لوفيفر بأطروحته: الحق في المدينة واهتمت بالأمر عدة جمعيات وتنظيمات. وتوّج هذا الاهتمام بصدور الميثاق العالمي للحق في المدينة عام 2003 الذي يكفل التطبيق الكامل لحقوق المواطنة ومستوياتها مؤكدًا أن “الحق في المدينة هو إطار عمل لمشاركة المواطنين المتساوية في تنمية وتطوير البيئة الحضرية”.

يعيد هارفي في أجزاء كثيرة من هذا الكتاب قراءة الأدبيات الماركسية لتحليل هذا الحق وتوضيحه باحثًا في ثنايا الماركسية عن حلول.. مثل أن تكون المدينة وليس المصنع هي نواة الحركات الثورية أو أن يكون العمال غير الآمنين وغير المنظمين والمؤقتين والمهاجرين هم طليعة هذه الحركات بدلاً من عمال المصانع التي لم تعد موجودة بشكلها القديم.

هذا الكتاب يضع المدينة في قلب العاصمة وفي قلب الصراعات الطبقية، باحثًا في بعض المدن من جوهانسبرج إلى مومباي، من نيويورك إلى ساو باولو، كما درس حالات كومونة باريس واحتلال وول ستريت ومشاغبات لندن. ويطرح هارفي السؤال الآتي: كيف يمكن أن تُنظّم المدن وفق العدالة الاجتماعية وبطرق بيئية سليمة، وكيف يمكن أن تصبح المدن مركزًا للمقاومة المعادية للرأسمالية؟ وهل يتحكم خبراء المال والمستثمرون بمداخل الموارد الحضرية، أو أن الناس هم من يتحكمون؟ ومن الذي يملي نوعية الحياة اليومية وينظمها؟
وديفيد هارفي مؤلف الكتاب هو منظّر اجتماعي وجغرافي ماركسي من أصل بريطاني وأستاذ لعلم الإنسان بمركز الدراسات العليا لجامعة مدينة نيويورك وأحد أهم الجغرافيين في العالم. بجانب كتاباته الجغرافية والأثنروبولوجية يتناول هارفي مواضيع متنوعة كالعدالة الاجتماعية، منطق الرأسمالية داخل إطار البيئة المبنية، ما بعد الحداثة، وانتقاد الرأسمالية بشكل عام. تكمن أهمية هارفي في نقده للرأسمالية -خاصة في شكلها النيوليبرالي – وفي مركزية المفهوم الماركسي للطبقة الاجتماعية في تناوله.
وقد قسَّم هارفي كتابه هذا إلى قسمين متمايزين بعد مقدمة تناولت رؤية هنري لوفيفر:
القسم الأول: الحق في المدينة، ويضم الفصول من الأول إلى الثالث.
الفصل الأول: الحق في المدينة.
الفصل الثاني: الجذور الحضرية للأزمة الرأسمالية.
الفصل الثالث: إنشاء الكومونات الحضرية.
الفصل الرابع: فن الإيجار/العائدات.
القسم الثاني: مدن متمردة، ويضم الفصول من الخامس إلى السابع.
الفصل الخامس: استعادة المدينة من أجل النضال ضد الرأسمالية.
الفصل السادس: لندن 2011: الرأسمالية الوحشية تضرب الشوارع.
الفصل السابع: احتلوا وول ستريت: حزب وول ستريت يواجه آلهة الانتقام.
يناقش ديفيد هارفي في هذا الكتاب فكرتين أساسيتين، الأولى: إدماج مداخله الماركسية حول التخطيط الحضري في القوانين العامة لحركة الرأسمالية وتقديم إطار عمل لتحليل الأزمة الحالية وتطورات الاتجاهات النيوليبرالية في العولمة. والثانية: اقتراح استراتيجية لبناء حركة معادية للرأسمالية تستطيع ترجمة خطط التوسع الحضري لمصلحة هؤلاء الذين تم قهرهم بواسطة الطبيعة الطبقية للتخطيط الحضري في واقعه الحالي.
من منظور هارفي فإن التخطيط الحضري هو نتاج القوة الدافعة لاستيعاب فوائض عملية تراكم رؤوس الأموال.
تعود عبارة “الحق في المدينة” في أصلها إلى المثقف الماركسي الفرنسي الشهير هنري لوفيفر، وقد صكها في 1968 استجابة لتصاعد الصراع حول قضايا التخطيط الحضري الذي انفجر في فرنسا في مايو من هذا العام. وقد سعى هارفي إلى تجذير هذا المفهوم في المنظورات التي تتعاطى مع الأزمة الحالية، مخبرًا إيانا أن “الحق في المدينة” لا ينشأ أساسًا من جدالات ثقافية ونظرية، بل من الشوارع. أي أن ما يعنيه هارفي هنا بالحق في المدينة هو المطالبة بجانب من سلطة التخطيط الحضري، وجانب من السيطرة على الطرق التي يتم بها صنع وإعادة صنع مدننا. ويستخدم هارفي هنا أفكار ماركس حول فوائض القيمة في تحليل التوسع الحضري الذي شهده العالم،
فالرأسمالية تبحث دومًا عن فائض القيمة (الربح)، وفائض القيمة يتحقق عن طريق (فائض الإنتاج)، وهذا يعني أن الرأسمالية تنتج دومًا فائض الإنتاج الذي يتطلبه التطوير العمراني. ومن ثم ليس من المثير للدهشة أن تتوازيى المنحنيات اللوجيستية لنمو الناتج الرأسمالي مع المنحنيات اللوجيستية لحضرنة سكان العالم.
ويناقش هارفي في هذا الإطار حالتي التطوير الحضري لمدينتين عالميتين هما باريس ونيويورك، فقد تم تطوير الأولى عقب أحداث ثورة 1448، وقد أتى لويس بونابرت بالمهندس جورج أوسمان وطلب منه إعادة تخطيط المدينة بما يسمح بسرعة التدخل لقمع أية ثورة أخرى محتملة، ولكن أوسمان أدرك أن مهمته الحقيقية كانت المساعدة في حل مشكلة فوائض رأس المال والبطالة عن طريق الحضرنة. واستوعبت عملية إعادة بناء باريس بالفعل أعدادًا ضخمة من العمال، وكميات ضخمة من رؤوس الأموال، ومثَّلت هذه العملية إلى جانب القمع السياسي الذي طال قوى الثورة المجهضة أداة رئيسية للاستقرار الاجتماعي. لقد استتبع إعادة بناء باريس ليس فقط تغيير البنية التحتية الحضرية، بل أيضًا بناء أسلوب حياة حضرية جديد، فأصبحت باريس “مدينة النور”؛ المركز الكبير للاستهلاك، والسياحة والمتعة. لقد غيرت المقاهي والمتاجر الكبيرة، وصناعة الأزياء والمعارض الكبيرة من أسلوب الحياة بشكل مكّنها من استيعاب الفوائض الكبيرة من خلال اختلاق أنماط استهلاكية فجة. وبعد أن يستعرض هارفي حال التخطيط الحضري في أنحاء متفرقة من العالم (مكسيكو سيتي – الصين – بومباي- سيول) يخلص إلى نتيجة مفادها أن “الحق في المدينة” أصبحت تسيطر عليه مصالح خاصة وشبه خاصة؛ ففي نيويورك على سبيل المثال عمدة ملياردير هو مايكل بلومبيرج يعيد تشيكل المدينة وفقًا لمصالح المطورين العقاريين وحي وول ستريت وعناصر طبقة الرأسمالية العابرة للحدود. لكن في المقابل لم تنشأ بعد حركة لمعارضة ذلك في القرن الحادي والعشرين، رغم وجود العديد من النضالات الحضرية والحركات الاجتماعية الحضرية.
المختلفة.
لكن ماذا يعني هارفي بالمدن المتمردة؟
يعترف هارفي أن أحد العوائق الرئيسية التي تعوق فهم كيف يمكن للمدينة أن يتم تنظيمها لتتحول إلى مدينة مقاومة -مقاومة طويلة الأمد- للتغول الرأسمالي هو ورطة عدم وجود معلومات. مع استثناء أحداث مدن كبرى ككمونة باريس 1448، والأيام الأولى من ثورة 1917 في روسيا. ولتجاوز هذا
العائق يطرح هارفي سؤالاً مهمًا: كيف يمكن تنظيم مدينة؟
والإجابة للأسف كانت مخيبة للآمال فنحن حرفيًا لا نعرف، ويرجع ذلك في جانب منه إلى أن أحدًا لم يفكر بجدية كافية في إجابة هذا السؤال، وفي جانب أخر إلى أنه لا يوجد سجل تاريخي ممنهج لتطور ممارسات سياسية يمكن أن نبني على أساسه أية تعميمات. كانت هناك بالفعل فترات وجيزة من التجريب في الإدارة الاشتراكية “للغاز والمياه”، أو طوباوية وأكثر مجازفة، مثلما كان الحال في الاتحاد السوفييتي في العشرينات، لكن الكثير من ذلك تبدَّد بسهولة في الواقعية الاشتراكية الإصلاحية أو الحداثة الأبوية الشيوعية/الاشتراكية. فأغلب ما نعرفه الآن عن تنظيم الحضر يأتي من نظريات ودراسات تقليدية عن حكم وإدارة الحضر داخل نظم الحكم البيروقراطية الرأسمالية، وجميعها بعيدة كل البعد عن سياسة مناهضة للرأسمالية. لكننا من ناحية أخرى -ومع عدم امتلاكنا لأدبيات نظرية تعالج هذه المشكلة- نمتلك تجارب وممارسات سياسية معاصرة في الحضر يمكن أن تمنحنا ضوءًا نسير على هداه، وقد وجد هارفي هذا الضوء في أحداث التمرد الحضري في بوليفيا، وتمردات لندن في 2011، وحركة “احتلوا وول ستريت في نيوورك”. ضد الخصخصة النيوليبرالية في “حروب المياه” الشهيرة التي نشبت عام 2000، حيث رُفضت سياسات الحكومة، وأجبرت شركتان دولتيان كبيرتان هما بكتيل وسويز على الخروج. ومن “إل إلتو” المدينة البوليفية الواقعة على هضبة تطل على العاصمة لاباز انطلقت حركات التمرد لتجبر الرئيس سانشيز دي لوسادا، المؤيد للنيوليبرالية، على الاستقالة في أكتوبر 2003، وأجبرت كذلك خلفه كارلوس ميسا في 2005، ومهد ذلك لفوز اليساري إيفو موراليس في انتخابات 2005. وتكمن الصعوبة هنا في فهم الدور الذي لعبته الظروف المحلية الخاصة في نجاح هذه التمردات، وفي تقييم المبادئ الكلية (إن وجدت) التي يمكن استخلاصها من دراستها.
أما تمردات لندن فقد وصفتها صحيفة الدايلي ميل بأنها “مجموعة من الشباب المجانين الذين جابوا شوارع لندن يائسين وفاقدين للرشد غالبًا يرشقون رجال الشرطة بالحجارة والزجاجات بينما ينهبون في مكان ويشعلون النار في مكان أخر، مما دفع السلطات إلى ملاحقتهم والقبض على كل من تستطيع القبض عليه منهم، وهم يتنقلون مسترشدين بموقع تويتر من هدف استراتيجي إلى آخر”. وسوف يحتدم بعد ذلك النقاش الهيستيري المعتاد في مثل تلك الحالات بين من يميلون إلى رؤية كل أعمال الشغب تلك باعتبارها جرائم خالصة، وبين من يحرصون على وضعها في سياقها السوسيواقتصادي والسياسي العام من عمل شرطي سيء، وعنصرية مستمرة،
واضطهاد غير مبرر للشباب والأقليات ومعدلات البطالة المرتفعة بين الشباب، والحرمان الاجتماعي المتزايد، وسياسات التقشف الرعناء التي لا علاقة لها بالاقتصاد بل بتعزيز الثروات الشخصية والنفوذ الفردي والإبقاء عليهما. مع التركيز على مواعظ أخلاقية مبتذلة حول فقدان الشباب المنحرف للبوصلة، وتراجع الكياسة، والتدهور المحزن لقيم الأسرة ونظامها.
والمشكلة أننا نعيش في مجتمع تحولت فيه الرأسمالية نفسها إلى حالة وحشية جامحة، لقد أصبح الاقتصاد السياسي القائم على نزع الملكيات بشكل جماعي، والممارسات الشرسة التي تصل إلى حد السرقة في وضح النهار – خاصة سرقة الفقراء والضعفاء والأقل حظًا وغير المحميين بالقانون- روتينًا يوميًا.
ومع ذلك فهناك ومضات من النور والأمل في مختلف أرجاء العالم؛ حركات الشعوب الأصلية في أسبانيا واليونان، والنبضات الثورية في أمريكا اللاتينية، وحركات الفلاحين في آسيا، كلها بدأت تدرك عملية الاحتيال واسعة النطاق، وترى كيف تم إطلاق العنان لرأسمالية عالمية متوحشة وشرسة لكي تفترس العالم. ما الذي يحتاجه الباقون منَّا ليروا ويعملوا بناء على ما يرونه؟ كيف يمكننا أن نبدأ مرة أخرى؟ وأي اتجاه نسلك؟ الإجابات ليست سهلة؛ لكن شيئًا واحدًا نعرفه على وجه اليقين: لا يمكن الوصول إلى الأجوبة الصحيحة إلا بتوجيه الأسئلة الصحيحة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.