في الخلاص النهائي: مقال في وعود النظم الفكرية العربية المعاصرة

يعرِض هذا الكتاب للنظم الإسلامية والعلمانية والليبرالية مزاعمها الظاهرة، والأساس القاعدي الذي تقوم عليه، ويخلص المؤلف وهو أستاذ الفلسفة والفكر العربي والإسلامي في عدة جامعات، لضرورة التمييز بين نظم الإسلاميين المعاصرين وبين الإسلام نفسه.
ويرى الكاتب أن العلمانية في شكلها التاريخي والأصولي نظام إقصائي، وأن العلمانية الجديرة بالتقدير والتوظيف هي “العقلانية”، ولكنه يستدرك أن العقل الإنساني لا يمكن أن يكون مستقلا استقلالا مطلقا، ويتعذر أن يكون وحده الحاكم في كل شيء
وينتهي إلى أن الليبرالية التي تحتاجها المجتمعات العربية هي المنتسبة إلى فلسفة الحرية الإيجابية التي تصون الحريات السلبية في حدود السلم الاجتماعي ووحدة المجتمع وتقدير أحكام التعددية الثقافية. وفي الفضاء الديمقراطي تستطيع نواة الإسلام الجوهرية أي العدالة المقترنة بالمصلحة وقيمها المتجاورة، والنواة العلمانية الجوهرية أي العقلانية التكاملية، ونواة الليبرالية التضامنية أي الحريات الإيجابية أن تتضافر وتلتقي عند مركب شامل يوجه ثقافة وحراك هذه النظم في الحياة الحاضرة والمنظورة للمجتمعات العربية.

وقد صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في عُمان عام 2007، أما طبعته الثانية التي بين أيدينا فصدرت في بيروت عام 2012، وهي نسخة مطورة ومزيدة. ويضيف توقيت صدور الطبعة الثانية بعد انفجار البركان العربي في 2011 أبعادًا وظلالًا جديدة. لكن أهم ما يؤكد عليه أنه في ظل تقدم ما يسميه الدكتور جدعان تقدم “تكنولوجيا الديمقراطية” –آنذاك- فإن الضمانة الوحيدة لتحويل هذه التكنولوجيا إلى ثقافة لن يتأتى إلا بتضافر “النوى القاعدية” لنظم الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين والقوميين، فهذا التضافر هو وحده الذي يأذن بتقدم حقيقي ثابت وبالإفلات من خطر العجز والتفتت والاستبداد والأفول.

أما الدكتور فهمي جدعان فهو أستاذ الفلسفة والفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر في عدة جامعات عربية، وأستاذ زائر بجامعة باريس (السوربون الجديدة) والكوليج دي فرانس بباريس.

***

تبدو نظم الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين للناظر غير المدقق واضحة بينة بديهية. ومبعث ذلك أن أصحابها قد ردوها، للمخيال العربي العام، إلى جملة من الصيغ والدعاوى “البسيطة” التي تختزل مضمونها وتقصي من هذا المضمون كل ما يثير الشك و اللبس. لكن الحقيقة –كما يؤكد الدكتور جدعان- هي أن هذه النظم ليست بينة بذاتها وإنما يعتورها عدم التحديد وتطالها جملة من المفارقات أو الأحوال أو الأعراض التي تلقي بظلالها على المفاهيم المستندة إليها، ذلك مما يتطلب عند الاستخدام والإنفاذ مراجعة نقدية من أجل التحقق من مدى مناسبتها أو ملاءمتها للفضاءات التي يراد لها أن توظف فيها،  فضلا عن مستوى الأداء الذي يمكن أن تنجزه في هذه الفضاءات.

ويخلص الدكتور جدعان في هذا الإطار إلى سمتين اثنين للنظم الفكرية العربية المعاصرة:

أولها: أن جملة النظم الأيديولوجية العربية التي تحكم حراك الوعي العربي المعاصر –وهي النموذج الإسلامي، والنموذج العلماني، والنموذج الليبرالي- هي نظم أيديولوجية أحادية ذات مقاصد صريحة في نشدان “الخلاص النهائي”.

وثانيها: أن النزعة الإطلاقية الأحادية والإقصائية لهذه النظم – أو لبعضها- لا تنقاد إلى الأصول “النصية” أو الفلسفية التي تستند إليها وتؤسس نظامها.

ثم ينتقل الدكتور جدعان إلى تفصيل هاتين السمتين من خلال دراسته لنظم الفكر العربية المعاصرة؛ فنظام الإسلاميين أولا ليس خالصًا لأي فريق من فرق الإسلاميين؛ إذ لا يجمع بينهم نظام مُحكم لا يخرج أحد منهم عن حدوده وأُطره. ومع أن هاجس “السلطة” و “الدولة” و “الحاكمية” هاجس يشبه أن يكون مشتركا بينهم، إلا أنهم يفترقون عند أمور كثيرة نظرية وعملية، والإحالة المشتركة عندهم إلى مطلق “الإسلام” لا تحسم الاختلاف ولا ترفع التمايز. وعلى الرغم من أنهم يعتبرون أنفسهم “سلفيين”، إلا أن تمثلهم لمفهوم “السلفية” يتفاوت ويتباين حتى أننا لنجد في هذا المفهوم ثلاث سلفيات على الأقل: السلفية التاريخية، والسلفية المحدثة، والسلفية المتصلبة.

ويدعو الدكتور جدعان في هذا الإطار لضرورة التمييز بين نظم الإسلاميين المعاصرين وبين الإسلام نفسه. كما انه يلاحظ في الإطار نفسه حدوث “تقدم” تاريخي، وهو أن مبدأ “الخلاص” عند أتباعهم لم يعد يحتكم إلى مفهوم “مسيحاني” مرتبط برؤية أخروية تقفز فوق المباشر التاريخي وتنتظر مجيء “مخلص” خارق يعيد الأمور جادة العدل والصواب. لم يعد الخلاص مرتبطًا بالنهايات القصوى أو البعيدة، وإنما بات مرتبطًا بالفعل التاريخي الإنساني المباشر، وبالانخراط المادي العملي في الحياة المشخصة وفي الفعاليات الزمنية الآنية.

كما حدث أيضًا “تحول” في وعي الإسلاميين وتمثلهم لمفهوم الدين والتدين. فبعد أن شهدت التجربة التاريخية الإسلامية معنى عامًا بيِّنًا لمفهوم التدين بما هو سلوك صالح وخيِّر- أي بما هو صلاح في العقائد والعبادات والمعاملات – أصبح التدين يعني “عملية رسالية” تطلب التغيير الشامل (الشخصي والاجتماعي والسياسي والقانوني..)، وتتميز بموقف “اجتماعي نفسي ثقافي” مشخص من الآخرين والدولة والمجتمع والعالم بأجمعه. وفي هذا التحول تقدم السياسي على كل الوجوه الأخرى، بحيث أصبحت هذه الوجوه تابعًا ثانويا لأصل مركزي هو السياسي. ويرى الدكتور جدعان أن طرح قضية دين الإسلام في العصر الراهن من زاوية “الدولة” السياسية – خلافة أو دولة دينية أو شورية مخصوصة- واعتبار ذلك “غائية” أولى وقصوى للإسلام نفسه، لا يمكن أن يمثل إلا حيدة عن غائية أبعد غورًا وأعمق وأعظم أهمية وخطرًا لدين الإسلام نفسه. هذه الغائية هي إنفاذ مبدأ قيمي أخلاقي اجتماعي هو مبدأ العدل المؤسس على المصلحة.

وعليه فإن الدكتور جدعان يرى أن على الإسلاميين أن يسلموا بأن تكون تقنية الحكم الديمقراطية وثقافتها الجوهرية هما الفضاء الذي تعبر فيه غائية العدالة عن تجسداتها ومطامحها وأهدافها.

ونظام العلمانيين ثانيًا ليس خالصًا لوجه واحد من وجوه النظر كما يرى الدكتور جدعان. لكنه يبين في الفصل الذي خص به العلمانية أنها تمتد على محور أبرز وجوهه علمانية جذرية تعرِّف نفسها بأنها رؤية للدولة تزيح من بنيتها ومؤسساتها ونظمها كل ما له علاقة بالدين. هذه العلمانية يمكن نعتها بالدوجمائية بله المناضلة، وهي وريثة عصر الأنوار الفرنسي. أما الوجه الأخر البارز للعلمانية فهو موقف حياد الدولة تجاه جميع المظاهر والأنشطة الدينية عدا ما يتداخل منها في تركيب الشأن السياسي.

لا تقع العلمانية “المحايدة” إذن –كما يذهب الدكتور جدعان- في شِباك النظام العلماني الدوجمائي المغلق. وإنما تفتح أبوابها، موجهة بنزعة إنسانية صريحة، وبروح متسامحة لا تقف في وجه أحد من مواطني الدولة ولا تقصي أحدًا. ويجد الدكتور جدعان رابطًا علمانية الحياد وبين مقاصد الشريعة لإنتاج ما يسميه “علمانية إسلامية” في الحدود التالية:

-العقل هو أساس المقاصد الشرعية.

– بناء الشرع على مبدأ المصلحة؛ أي تحصيل المنفعة ودفع المفسدة، وفقًا لقيمة العدل.

– العلمانية بما هي حياد تحترم العقائد الدينية ولا تميز بين أتباع الديانات، ويمكن لها ان تدعم المؤسسات التربوية والاجتماعية الدينية، معنويًا وماديًا، بخلاف العلمانية الإقصائية.

– الغاية من مقصد حفظ الدين هي ضمان الشروط الضرورية من أجل ممارسة حياة دينية طبيعية وآمنة. وليس إلزام الدولة العلمانية الحيادية بتطبيق أحكامه بالضرورة.

أما نظام الليبراليين فإنه لا يختلف عن نظام العلمانيين –من منظور الدكتور جدعان- من جهة أنه ذو وجوه متعددة، أي إنه لا تشخص منه ليبرالية واحدة، وإنما ليبراليات عديدة. واختيار هذا الشكل أو ذاك يمثل مشكلة في حد ذاته. وهو يتعلق قبل كل شيء بالمعيار العقلي، أو الحسي، أو النفعي، أو الحدسي، أو الميتافيزيقي، أو الديني، أو العاطفي، أو الثقافي، أو السوسيولوجي الذي يحكم الفرد ويوجه نظره وفعله.

وبعد استعراض المعطيات الغربية الحديثة والمعاصرة، وتلك التي تعكس تطلعات المفكرين العرب المحدثين والمعاصرين تجاه العلمانية والليبرالية يخلص الدكتور جدعان إلى القول بأن الليبرالية بما هي فلسفة الحرية قد فرضت معناها الأصلي والجوهري على الفضاءات جميعًا. هناك وهنا. بيد أن الذي يحتم الواقع فرض الإقرار به هو أن الليبرالية ليبراليات وأنه لا يجوز إطلاق المصطلح من دون تحديد، لأن طبيعة المضمون الذي نحمله على المصطلح وحدود هذا المضمون توجه الآخذين به توجيهًا حاسمًا في هذه الطريق أو تلك. وعليه فإن على الليبراليين العرب أن يجيبوا على أسئلة من مثل: ماهي الليبرالية المطلوبة؟

ليبرالية إنكلترا القرن التاسع عشر، أم ليبرالية الولايات المتحدة في عهد فرانكلين، أم ليبرالية بريطانيا المعاصرة؟ هل نتغيا ليبرالية سياسية فقط أم ليبرالية اقتصادية؟ ليبرالية آدم سميث أم ليبرالية كينز؟ الليبرالية المحافظة أم الليبرالية الجديدة؟

تمتد هذه الليبراليات على محور واسع.. بعضها ذو حدود وشطآن.. وبعضها بلا حدود وشطآن.. وليست الوعود ههنا هي الوعود نفسها ههناك.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.