ما هو دور الشريعة في عالم اليوم؟ سؤال يلح على أذهان كثيرين، مسلمين وغير مسلمين، عوام وفقهاء، ساسة ومفكرين، وآخرين غيرهم. ربما يرى البعض أن الأمر واضح جلي؛ فالشريعة هي الحَكم وهي المهيمنة على أفعال البشر، وقد يعتقد آخرون أن أثر الدين في عالم اليوم أصبح هامشيًا، وأن عالم ما بعد الحداثة وما بعد الدولة هو عالم بلا حدود، ولا يمكن لنظام واحد – دينيًا كان أو غير ديني – أن يسيطر عليه أو أن يتحكم فيه. ولكن طرح السؤال بهذه الطريقة ومحاولة الإجابة عنه بصورة مباشرة من دون تحليل تاريخي أو مفاهيمي يُعدّ أنموذجًا لحالة فكرية مشوبة بالتسطيح والتعميم من كل جانب، وهنا تأتي محاولة المؤلف في هذا الكتاب، لا للإجابة عن هذا السؤال ولكن لبيان الإطار العقدي والفكري والتاريخي والمعرفي لمسألة حيوية الشريعة وفتورها عبر التاريخ.

ومؤلف هذا الكتاب هو الدكتور عاطف أحمد عاطف الأستاذ بجامعة هارفارد، وهو خريج كلية دار العلوم بجامعة القاهرة وله أيضًا بخلاف هذا الكتاب: Islamic Law: Cases, Authorities, and Worldview و Islam, Modernity, Violence, and Everyday Life، وكتب ودراسات أخرى.

وقد قسَّم المؤلف كتابه إلى 4 أقسام، يشمل كلٌ منها عددًا من فصول الكتاب، وجاءت كالتالي:

القسم الأول: مبادئ عامة

الفصل الأول: الحق والفتور

الفصل الثاني: مسائل مفتوحة

الفصل الثالث: نظرية الاجتهاد

القسم الثاني: مجتهدون وغير مجتهدين

الفصل الرابع: ماذا لو نسينا الشريعة!

الفصل الخامس: نهاية الفقه

الفصل السادس: الاجتهاد للجميع

القسم الثالث: الحداثة ومسائلها

الفصل السابع: صورة جديدة

الفصل الثامن: خلو الزمان من الحكم الرشيد

القسم الرابع: بعد الحداثة

الفصل التاسع: علم مهجور

الفصل العاشر: تفسير متجدد

خاتمة

***

إذن ما المقصود بـ”فتور الشريعة”؟

إنه “خلو الزمان من المجتهد” بحسب فقهاء ومتكلِّمي الأشاعرة الذين قالوا بإمكان حدوث ذلك، و”خلو الزمان من المجتهد” يعني عدم القدرة على الاجتهاد في معرفة الأحكام الإلهية في الأحداث التفصيلية، وبالتالي اندراس الشريعة وتغييبها كمرجعية للحكم.

يدرس الكتاب آراء ثلاثة اتجاهات إسلامية ناقشت قضية “فتور الشريعة”؛ الأشاعرة وهم من قالوا بإمكان حدوث ذلك، والمعتزلة والحنابلة الذين رفضوا إمكان حدوثه من مناظير مختلفة ولأسباب مختلفة. فموقف المعتزلة ينبني على قدرة العقل على إصدار أحكام مستقلة،  في حين يتضمن موقف الأشاعرة القول بأن الله المالك المهيمن على العالم لا يُلْزَمُ بالعدل كما يفهمه البشر، ويعتمد موقف الأشاعرة على تعميم الاجتهاد وتأكيد الأصول (القرآن والسنة) كأساس للشريعة- وكلها تؤدي بالمرء إلى إحدى نتيجتين أساسيتين حول قضية “فتور الشريعة”: نعم، يجوز الفتور، وهذا ما قاله الأشاعرة؛ ولا، لا يجوز الفتور، وهذا ما قال به غيرهم.

يُبين الفصل الأول أن النقاش حول فتور الشريعة قد جرى خلال ثلاث مراحل متداخلة. (وهذا التقسيم لمراحل النقاش يتوافق مع مفاهيم وأدوات تحليلية أكثر منه مع التاريخ، نظرًا لتداخل مراحله) وقد كان الفقهاء هم محور المرحلة الأولى التي تضمنت أيضًا مواقف الحنابلة والأشاعرة والمعتزلة في العصور الوسطى. ويقع المجتمع والسلطة في  قلب المرحلة الثانية من النقاش، واعتمدت هذه المرحلة في نقاشاتها على موضوعات قديمة من الفلسفة السياسية الإسلامية في العصور الوسطى، ولكنها تأثرت أيضًا بالتطورات السياسية المصاحبة للاستعمار والدولة القومية الحديثة. وقد تميزت تلك اللحظة التاريخية بانتشار تعليم الشريعة الإسلامية في كثير من المؤسسات، التي وقف معظمها في منعطف إعادة تشكيل هذه الشريعة. وفي هذه المرحلة كانت طبيعة الشريعة ودورها في المجتمع والحكم مثارًا للجدل؛ ومن ثم فقد أثّر هذان العاملان في القوانين السارية كافة (بصيغتها الحديثة). أما المرحلة الثالثة من النقاش، فقد كانت نظرية المعرفة والسلطة في القلب منها. وفي هذه الفترة يمكن للمرء أن يستقي من الماضي ما يشاء، ولكن الحكم في النهاية يصدر بناء على الملاحظة التجريبية، التي تضفي أيضًا قيمًا مختلفة على ما يمكن للمرء ملاحظته اليوم؛ فأداة التحليل الرئيسة في هذه الفترة (الملاحظة التجريبية) غريبة على النظام قيد الدراسة (أي الشريعة). وهذا التوجه في النقاش هو في النهاية حكم على ماهية “المعرفة”، والظروف التي تؤدي إلى إمكانية حدوث أنواع معينة من المعرفة، وعلاقة المعرفة بالقوة. ويرى المؤلف أنه -في عصر ما بعد فوكو هذا- فإن الشريعة لابد أن تكون ميتة؛ ليس لأن الفقهاء المشتغلين بها يرون ذلك، بل لأن هؤلاء الذين يدَّعون أنهم مؤهلون للاشتغال بانتاج الشريعة في الحقيقة غير مدركين لاستحالة مسعاهم، ولابد من اعتبارهم غير مؤهلين لمعالجة مسألة حياة الشريعة.

ويوضح المؤلف في الفصل الثاني أن مسألة “فتور الشريعة” مرتبطة بمباحث أخرى أهمها: قدرة العقل غير المؤيد (بالشرع) على إدراك الواجبات، وإمكانية وقوع الفراغ التشريعي ومعناه في الأزمنة التي كانت فيها الشريعة قائمة بدرجة كاملة. ويظهر الفصل أيضًا أهمية هذه القضايا وخاصة في فهم المرحلة الأولى من النقاش التي كان الفقهاء في القلب منها. إضافة إلى ذلك يبين الفصل الثاني العلاقة بين التأملات الشرعية والكلامية في فتور الشريعة، كما يلاحظ التأملات السياسية الإسلامية في العصور الوسطى حول المجتمع والإمامة.

أما الفصل الثالث فيعالج المصطلح الذي تسبب صعوبة تحديد معناه مزيدًا من التعقيد في المسألة؛ ألا وهو الاجتهاد، أو الجهد المطلوب للوصول إلى الأحكام الربانية. ويعد فهم هذا المصطلح ضروريًا لفهم النقاش بكل صوره.

تعرض الفصول من الرابع إلى السادس المواقف المتبناة في هذا النقاش، التي كان الفقهاء في القلب منها. وقد رأى جميع المشاكرين في هذا النقاش المسألة بوصفها إحدى مظاهر إمكانية معرفة الأحكام الربانية عن طريق بعض صور الاجتهاد أو الجهد البشري. ينصبُّ الفصل الرابع على المسائل عددٍ من المسائل خاصة موقف المعتزلة الرافض لجواز فتور الأحكام الشرعية. بعد ذلك ينصبُّ الفصل الخامس على موقف الأشاعرة من قضية فتور الشريعة. وقد وجه الأشاعرة أدلتهم ضد موقف المعتزلة والحنابلة؛ إذ أجازوا فتور الشريعة، مع وصول الكثير منهم إلى درجة القول بترجيح وقوع هذا الفتور، ثم يعرض الفصل السادس موقف الحنابلة الذي غرس جذور مبدأ “الاجتهاد (المحدود) للجميع”، وأكد توفر الأحاديث النبوية كأساس للأحكام الربانية.

أما الفصل السابع فيناقش التحولات التي طرأت على مكانة الفقهاء السنة داخل مجتمعاتهم مع قدوم الحداثة، ثم يناقش الفصل الثامن الصلة بين الإمامة ومسألة الفاعلية الوظيفية للشريعة، وسيركز النقاش على دور الإمامة في المجتمع المسلم وصلته بالشريعة اهتداءًا بكتاب الغياثي للإمام الجويني، وعلاقة ذلك كله بالحداثة ومابعدها وتأثيرات الكولونيالية على القضاء والتعليم في المجتمع المسلم وفي العالم ككل.

أما الفصلان الأخيران -التاسع والعاشر- فيناقشان الآراء الحديثة بأن الشريعة ربما تكون قد صارت بالفعل عِلمًا ضائعًا، أو تراثًا مفقودًا. ومع ما في هذا النقاش من تذكير لنا ببعض نواحي النقاش الذي دار في القرون الوسطى؛ فإنه أتى في سياق مغاير تمامًا لسابقه، وأعمَلَ صياغة جديدة للمفاهيم. ويشير المؤلف في هذين الفصلين إلى المخاطر التي تكتنف قضية الحكم على هذا الإدعاء؛ إذ تتعارض فيه الإجابات حول “ماهو حال الشريعة؟”، ويصعب التوفيق بينها. ويتضمن الفصلين التاسع والعاشر كذلك مناقشة حول طرح وائل حلاق للنفس القضية.

 

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.