تحولات مفهوم القومية العربية من المادي إلى المتخيَّل

يحاول هذا الكتاب البحث عن نقد داخلي في فكرة القومية العربية ضمن صيرورة ثقافية بخاصة مع تصاعد دعوات كثيرة في العقدين الأخيرين تطالب دعاتها بالمراجعة الذاتية. ولأن هذه الفكرة امتصت طاقة فكرية وشعبية كبيرة على مدار القرن الفائت بحيث أصبح من غير الممكن تجاوزها وكأنها لم تكن
تتفتح فصول هذا الكتاب حول إشكاليتين رئيسيتين الأولى تتسائل ما إذا كان الفكر القومي العربي قد أجرى ضمن صيرورته الثقافية نقدا داخليا استطاع من خلاله مواكبة مشكلات الواقع العربي على مدار القرن الفائت. والثانية تفحّص إمكاناته؛ عبر إنتاجه المعاصر، بتشييد مشروع سياسي اجتماعي يعيد التفكير بقضيته المتمثلة ببناء أمة حديثة.
حول هذه الأسئلة التي ستولد أسئلة أخرى تدور إشكالية هذا الكتاب ليسعى النص إلى تقصيها عبر مناقشة نتاجات أربعة نماذج من المثقفين القوميين تتوزع على فترات زمنية مختلفة، وهم محمد عزة دروزة من الجيل الأول، ونديم البيطار، وقسطنطين زريق من الجيل الثاني، وعزمي بشارة من الجيل الثالث والأخير.

وقد قسَّم المؤلف وهو الباحث الفلسطيني هاني عوَّاد كتابه إلى مقدمة وخمسة فصول

الفصل الأول: صورة الصورة: الصهيونية المعكوسة: تمثلات القومية العربية لدى محمد عزة دروزة

الفصل الثاني: من الأمة إلى السلطة: الخطاب القومي العربي عند نديم البيطار

الفصل الثالث: من القومية إلى الأداتية: طروحات النهضة العربية عند قنسطنطين زريق

الفصل الرابع: التخيُّل بوصفه مشروعًا سياسيًا: جدل القومية والديمقراطية عند عزمي بشارة

الفصل الخامس: مساهمة في نقد الخطاب القومي العربي: من المقومات إلى التخيل

صورة الصورة: الصهيونية المعكوسة: تمثلات القومية العربية لدى محمد عزة دروزة

يحاول هذا الفصل فهم تشكُّل الأيديولوجيا القومية في فلسطين في فترة مبكرة نسبيًا من تاريخ نضال الفلسطينيين ضد الصهيونية، ويأخذ في هذا الإطار نموذج محمد عزّة دروزة الذي كان في حياته المحسوبة بمقياس السنوات ستة وتسعين عامًا، سياسيًا مخضرمًا، ومقاتلاً عسكريًا ينظم الصفوف ويرتب الخلاليا، ومفكرًا مسترجعًا التاريخ ليرفض الحاضر.

ويستخدم المؤلف مدخلان لمقاربة القضية محل البحث في هذا الفصل ولمقاربة الفكر السياسي العربي عمومًا: أولهما مدخل يتعلق بطبيعة المعرفة الإدراكية، وثانيهما يتعلق بإعادة النظر في تحقيب الفكر السياسي العربي.

بحسب ماهو مسجَّل بدأ النشاط السياسي لمحمد عزة دروزة عندما انضم عام 1908 إلى نادي “جمعية الاتحاد والترقي” وكان حينها في العشرين من العمر وأسهم في عام 1909 بتأسيس فرع لحزب الحرية والائتلاف المعارض لحزب الاتحاد والترقي، وأنشأ في السنوات التالية أحزابًا وجمعيات عدة، من بينها الجمعية العلمية العربية التي كانت تهدف إلى إنشاء مدارس تعلم باللغة العربية، كما تعاون مع “جمعية بيروت الإصلاحية”، وأسهم في إنشاء فرع لحزب اللامركزية، لينضم في عام 1914 إلى حزب “العربية الفتاة”.

لا يتغيَّا المؤلف هنا التأريخ لشخصية محمد عزة دروزة بقدر ما يرغب في التأكيد على أن النزعة القومية كانت واضحة لديه في ريعان شبابه من خلال الحركات والأحزاب والتشكيلات التي انخرط فيها أو في وظائفه التي عمل بها لكسب الرزق.

ويفترض المؤلف أن دروزة في أثناء تطور وعيه القومي، تأثر بشدة بالترسيمة الذهنية الأولى للصهيونية، كما تمثَّلها واستبطنها، لتشييد فكرته عن القومية العربية في المجال الفلسطيني. شيد دروزة تصوره للقومية العربية بناء على تمثله لصورة الصهيونية. ويدلل المؤلف على ذلك من خلال أن دروزة بدا في إسهاماته القومية محمومًا لتأصيل الرابطة القومية على أرضية عضوية تقوم على “الجنس العربي”، وهي الصورة التي عكستها الصهيونية في خطابها عن نفسها.

ويخلص المؤلف إلى نتيجتين

أن دروزة لم يتمثل حقيقة الأيديولوجيا الصهيونية،  بل تمثل صورتها التي قدمتها إليه عن نفسها ولم تقدمها إلى غير العربي.

أن تمثل دروزة للنموذج القومي عبر مرآة الصهيونية سوف يعكسه إلى حد بعيد في قراءته للتاريخ، وحتى في السيرة النبوية، ليؤسس من خلالها تصورا جديدا لإشكالية الأصالة والمعاصرة.

من الأمة إلى السلطة: الخطاب القومي عند نديم البيطار

يبين هذا الفصل، في تناوله كتابات نديم البيطار؛ وهو القومي العربي من الجيل الثاني، أن الفكر القومي العربي في صيرورته وجدله مع مشكلات واقعه وصل إلى حد تجاوز نفسه، وذلك بتهميش مجموعة العناصر والثوابت الأولية لدى مفكري الجيل الأول من القوميين العرب مثل اللغة والتاريخ والدين والدم، لصالح عناصر جديدة مثل الدولة والصور والتمثلات، والانتقال من الفكرة والسؤال الأخلاقي إلى السلطة وتحليل آليات السيطرة خاصتها، وهذا ما يمثل تجاوزًا لفكرة القومية العربية والتقاطع مع لفيف من المنهجيات التي تنتمي إلى طائفة الـ”مابعديات”.

مع خطورة هذا الانتقال أبقى البيطار صلة وصل بين السابق واللاحق عبر تبينه مفهوم الأيديولوجيا الانقلابية التي تحمل ضمنًا سقفًا ومرجعية أخلاقية، مع أنها بدت غير منسجمة مع التصور السحري للسلطة، فظل مشغولاً بهمومه الأيديولوجية التي تتلخص بالوحدة العربية مقابل الاستعمار، وأصر على أن استحضاره للأدوات الجديدة جاء في خضم تأصيله الفكري لعملية “بناء الأمة”. ويرى المؤلف أن نديم البيطار أراد أن يجمع بين حقبتين معرفيتين مختلفتين: الحقبة الكلاسيكية التي نظّرت إلى مقومات القومية العربية في العالم العربي من لغة وتاريخ ودين، مركزة على السؤال التنويري الأخلاقي، والحقبة الجديدة التي ركزت على تقنيات السلطة وغاصت في ميدان سوسيولوجيا المجتمعات العربية المتعددة.

وكان من أبرز الانتقالات التي حققها البطار هجره تمامًا للمنهج الدايكروني في تحليل الظاهرة القومية، إلى المنهج السايكروني، لكنه انحبس فيه، وانزلق إلى خطاب الحتمية التاريخية.

من القومية إلى الأداتية: طروحات النهضة العربية عند قسطنطين زريق

يتناول هذا الفصل نموذجًا أخرًا من القوميين العرب هو قسطنطين زريق (1909 – 2000) الذي أخذ الطريق الأخرى، وتبنّى المنهج الدايكروني في معالجة موضوع القومية وعلاقتها بالحداثة. ويخلص الفصل إلى أن زريق شهد تحولاً فكريًا تدريجيا، وليس حاسمًا، ازداد وضوحًا عقب عودته إلى العمل الأكاديمي والبحثي، وبالتحديد في كتابه نحن والتاريخ في عام 1959، حيث تجاوز في هذه المرحلة “مسألة الهوية العربية، وانكب على مسألة أخرى اعتبرها أجدى وأهم، ألا وهي قضية التقدم الحضاري واللحاق بالغرب. وكان يدعو بحرارة المبشر إلى الأخذ بقيم الغرب ماديا وفكريا.

أدى به هذا التحول إلى أن يرد القومية العربية إلى دائرة الأخلاقي لا إلى دائرة السياسة، وأن يحصرها في الحيز الخاص ويقصيها عن الحيز العام. وهو أمر مردُّه رؤيته لها باعتبارها عقيدة صوفية تشبه الأديان التقليدية بتعبيراتها الروحية، ثم إنه أمر سهل عليه أن تكون دعوته القومية ذات هوى ليبرالي، تنسج علاقات ديناميكية مع الدين والتراث.

أما أطروحته في النهضة العربية،  فلم تراوح التبشير بالتحديث، والدعوة إلى العقلانية الأداتية، وتنظيم المجتمع وترتيبه، وهو أمر لابد أنه أبهره في المجتمعات الغربية المتقدمة، غافلاً عن الأشكال الجديدة من الهيمنة التي تؤدي إليها العقلانية الشاملة في المجتمع، ليبتلع زريق في أثناء تشييده لرؤيته القومية أيديولوجيا الحداثة الغربية التي أفرزت فيما أفرزت تصورًا خطيًا تقدميًا للتاريخ، وأشكالاً مختلفة يصب بعضها في ما عاصره زريق نفسه بـ “نهاية التاريخ”

التخيل بوصفه مشروعًا سياسيًا: جدل القومية والديمقراطية عند عزمي بشارة

يرصد المؤلف في هذا الفصل التجديد الذي أضافه عزمي بشارة إلى الفكر القومي العربي، في مرحلة يبدو هذا الأخير أنه اختبأ فيها خلف الشعارات والأحزاب الأيديولوجية. وقسَّم المؤلف تحليله إلى ثلاثة محاور. أخذ المحور الأول على عاتقه فهم مراجعة بشارة لفكرة القومية العربية بوصفها جماعة متخيلة يؤسس لها المتخيل، حيث المتخيَّل واقعي تشيده أدوات تخيل حديثة مادته اللغة،  ليصبح فعل التخيل الجمعي مشروعًا سياسيًا لبناء أمة مواطنية حديثة داخل الكيان القطري.

أما المحور الثاني فيحقق في طبيعة النقلة الفلسفية التي حققها بشارة عبر تأصيله جدلية بين كل من مركب القومي ومركب الديمقراطية في الفضاء العربي،  لتخرج القومية معه من أداة أو غاية كما كانت عند سالفيه، لتصبح صيرورة حداثية لا يمكان فصلها عن مركبات الحداثة الأخرى مثل الديمقراطية. ويتجاوز بشارة الفصل المعرفي بين المركبين عبر إقامة جدلية بين جدليتي الجوهر والوجود الهيغلية، بعد أن انحبس من كانوا قبله في إحداهما.

ويرصد المحور الثالث التجديد النظري الذي أجراه بشارة في الفكر القومي العربي،  وذلك بقلب مقولة دعاة القومية العربية الكلاسيكية: أمة ممتدة من المحيط إلى الخليج، لتصبح في أنضج لحظة من الصيرورة الثقافية للفكر القومي العربي: أممًا مواطنية وقومية ثقافية جامعة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.