ينتسب هذا الكتاب (تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات- الشبكة العربية للأبحاث والنشر -465 ص) وفق مؤلفه فهمي جدعان الى زمن من أكثر الأزمنة العربية حيوية وفاعلية وتوتراً وانشغالاً بهواجس التحليل والنقد والبناء والتقدم حيث يشير الى عدة أمور ومتعلقات خارقة لحقت بالوعي العربي وحدث «الربيع العربي»: أولها: ان الثورات أو «الانتفاضات» تجري في مسارات تتوعد بأزمنة صعبة، وتتوخى تحقيق أهداف ليست هي التي نهضت من أجلها، وأن اختلالات جديدة تطل برؤوسها وتطلب أن تتوطن. ثانيها: أن الخريطة العربية تتشكل اليوم وفق تخطيطات مُخترعة يجري فيها احلال نظم جديدة بدلاً من النظم التى فقدت صلاحيتها، وتحكم أعطافها وجنباتها آليات التجزئة والتفكيك والتدمير الذاتي والاختلالات البنيوية، وتُقصى منها «المشتركات التاريخية» والغائيات «التوحيدية»، وتعصف بها الآفات المذهبية والطائفية والاثنية والدينية القاتلة لكنها، مع ذلك كله تتحرك لتدارُك»القيمة» و «المعنى» ولتوفير «حقوق المطلوبات الحيوية العظمى». ثالثاً: ان ادراك الحرية، العدالة، الكرامة الانسانية، الرفاهية، الخير العام، الديموقراطية (الحقيقية)، الدولة الرحيمة العادلة والنظام السياسى السديد– يتطلب عوداً على بدء، واستئنافاً بانياً يُعيد الى هذه المطلوبات راهنيتها وضرورتها واسبقيتها، لا في عيون وأذهان وأفعال (خاصة) القوم من المثقفين والمفكرين وحدهم، وانما في فضاءات (عامة) القوم، اي الشعب، حيث لا يمكن انفاذ الديموقراطية على وجهها السديد الا اذا كانت هذه (العامة) مزودة بقدر ضروري من المعرفة والعلم والتمييز، لأن الديموقراطية «غير العالمة» لن تقيم الا «مدينة جاهلة».

ويلفت جدعان الى «اننا نعبر اليوم زمناً غير عادي، عاصفاً، هو أتون تحترق فيه النفوس والأبدان والمجتمعات والأوطان، عشرات الآلاف من الضحايا والبؤساء والمُضللين سالت دماؤها وتناثرت أشلاؤها ودرست منازلها وتبعثرت فى الافاق بقايا من بقاياها. القيم الكبرى تستدعي لكن الزيف والوعود المبدلة والنفاق تتلبسها. الأيديولوجيا الصلبة والدغماطية الواثقة تعودان بقوة، والنظم الفكرية تستأنف السجال والتقابل العنيف والترافع الذي لا يرحم.

ومن سمات هذا الزمن الغير عادي أن المبادئ الأخلاقية والقوانين تُحتقر وتزدرى، والتوافق والتصالح بين «القيم الانسانية»، العقلية، وبين «القيم الدينية» الأصيلة يفقد معناه ويجابه بالانكار. «منظور سياسي مُسرف» للدين يتجذر ويستعلي، ومن دون ان يرمش له جفن يوحد بين نفسه وبين الدين نفسه، حتى ليبدو، في بعض الحالات، أن أكثر «الشعوب الاسلامية» تعلقاً بالدين وأهدابه يجد نفسه خارج الدين، مدعواً الى دين الاسلام من جديد! لأن «المسلمين عنده ليسوا، أو لم يعودوا، مسلمين»! وفي مفارقة مبتدعة لا يجد دعاة هذا المنظور، في مواطن عدة، حلاجاً في العودة الى روح القبيلة «الجاهلية» وفي بناء مشروعهم الديني على «العصبية القبلية» التي نهض الاسلام نفسه في قبالتها، ونقيضاً لها، أما فتاوى التكفير وتحليل بعضهم للقتل، بممارسته، فقد باتت تُطلق باحتقار كامل لكل المبادئ التي ينطوي عليها علم «أصول الدين» أو «التوحيد»، وتطاول المسلم والمسيحي والليبرالي والعلماني.

ويلفت جدعان الى شيئين يملآن نفسه روعة وجلالاً ازاء هذا المشهد: الأول المكانة الخارقة التي بات الاسلام يحتلها في الفضاءات العربية والاسلامية والكونية، «الإسلام السياسي» في رأيي «بدعة» إيديولوجية حديثة، ونَسجٌ على منوال الأحزاب السياسية الحديثة. وهو في اعتقاده انحراف صريح عن غائية الإسلام الحقيقية التي هي غائية أخلاقية حضارية، لا حركة سياسية مكيافيلية تطلب السلطة والغلبة والإقصاء للمختلف. ينقسم الكتاب الى قسمين: الأول يحمل عنوان «تحرير الاسلام»، والقسم الثاني عنوانه «رسائل زمن التحولات» ضم مجموعة من المقالات التي لم تُنشر من قبل وتلتحق بمتعلقات هذا الزمن الذي مضى أو الذي سيأتي منها: العدل الحرية، الديموقراطية، العلمانية الاسلامية، الحداثة، السلفية، الدولة.

وفي تناوله (الحداثة والحداثات العربية) أبان جدعان فيه عن ما يشبه أن يكون تاريخاً مفهومياً للحداثات العربية، بدءاً من «الحداثة النبوية» إلى المنعطف العقلي واستقلال العقل الإنساني عند المعتزلة والفلاسفة، ثم بزوع الحداثة «العلمية»، فتفجر «الذات الشخصانية» في الفضاءات الصوفية إلى عصر التنوير العربي الحديث.لا، لم تكن حضارتنا ذات روح اتباعية تقليدية، إلا في أوساط بعض المذاهب الفقهية والكلامية والتيار الذي يمكن نعته بالتيار السلفي الاتباعي الذي جسده «أهل السُنة الأوائل» و «أصحاب الحديث» والسلفيون المتأخرون: ابن تيمية ومدرسته. ومن المؤكد أن التشيّع، بعد أن تبلور في نظام عقيدي صارم، يلتحق أيضاً بهذه الرؤية، وذلك على رغم أخذه بمبدأ الاجتهاد العقلي الذي يمارسه الأئمة. وفي جميع الأحوال أنا لست ممن يؤمنون بمبدأ «الاستلهام» بقدر ما أضع يدي على المواقف أو الرؤى أو المفاهيم التي تحتفظ بدلالة «حالية» لنا نحن اليوم. وأرى أن مبدأ «الابتداع» هو الذي ينبغي أن يُتَّبع، وأن «الحاضر» هو البوصلة التي ينبغي أن توجه أفعالنا.

وعن (السلفية: حدودها وتحولاتها) ميّز بين ثلاثة أنواع من السلفية: السلفية التاريخية – سلفية الجيل الإسلامي الأول-، والسلفية المُحدَّثة – سلفية «الإصلاحيين» المسلمين: جمال الدين ومحمد عبده والطهطاوي وخير الدين، والسلفية المتعالية، التي يمكن اعتبارها «تمهيداً» لما يُسمى اليوم «السلفية الجهادية». وهي جميعاً تنسب نفسها إلى «السلف» لكنها جميعاً «مواقف تعكس عقول أصحابها» وظروفهم وأوضاعهم التاريخية. وبحسب فهمي جدعان فإن المسلمين مطالبون أو مدعوون إلى أن يقيّموا حياتهم ويقوّموا وجودهم التاريخي لا بالرجوع إلى جيل سابق وبشر آخرين، وإنما بالرجوع إلى أوضاعهم التاريخية المباشرة وإلى معطيات وجودهم المشخص واعتبار ذلك في ضوء «المقاصد» العليا لدينهم، أي «المقاصد» المُشتقة من القراءة الشمولية أو (الهولستية) للنصوص الدينية، لا من الأفكار والروايات والأخبار التي تنتقل عن هذا الشخص أو ذاك ممن نجحوا في تاريح الإسلام. وبالطبع ينبغي أن تكون هذه القراءة موافقة لمتطلبات الواقع المباشر ولأحكام الزمن الذي يجري.

ويُحسب لجدعان نبرة التفاؤل التي يُغلف بها كتابه مؤكداً على أنه اذا كانت التطورات والوقائع الجديدة التي تعصف بأركان العالم العربي منذ بدايات هذا القرن تجري في مسارات ومسالك لا تشتهيها نفوس المفكرين العرب البارزين الذين ينتمون الى شتى الآفاق، فإن الأمل معقود على قوة الأفكار والمبادئ والقيم التي دافعوا عنها وبذروها في كل مكان من الأرض التي درجوا عليها ونبتت أعمالهم فيها وأنتشرت آثارهم عليها، معمقة الوعي، مُعززة ارادة التغيير والفاعلية المستمرة.

 

رابط المقال :

http://www.alhayat.com/article/534112/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9-%D9%84%D9%86-%D8%AA%D9%82%D9%8A%D9%85-%D8%A5%D9%84%D8%A7-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%AC%D8%A7%D9%87%D9%84%D8%A9-

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.