عمل الأنثروبولوجي السعودي سعد الصويان منذ عام 1982 وعلى مدى سنوات عديدة على جمع مادة غزيرة بلغت آلاف الصفحات، حول المرويات والأساطير الشفوية البدوية عن الأحداث والصراعات والمعارك التي خاضتها قبائل شمر وعنزة وآل مرة وسبيع وعتيبة.
ساهم هذا المجهود الكبير في أن يكون مشروع الصويان في هذا المجال لا يقل أهمية، بل يوازي، ويتجاوز العديد من المشاريع الأنثروبولوجية الغربية التي اشتغلت على دراسة التراث الشفوي الخليجي، كما في أعمال دونالد كول أو الأنثروبولوجي الهولندي مارسيل كوربر شوك، الذي ألف أربعة مجلدات عن المرويات الشفوية لقبيلتي الدواسر وعتيبة، ونشرت لاحقاً في دار بريل العريقة.
ولذلك بدا الصويان، من خلال عدد من المجلدات الضخمة التي نشرها، مثل «الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص»، و»الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور، قراءة أنثربولوجية»، أو من خلال المجلد الأخير الذي صدر له تحت عنوان «أيام العرب الأواخر»، بدا يروم بناء نموذج نظري لطبيعة التنظيم القبلي ووظيفته السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى علاقة القبائل ببعضها داخل شبه الجزيرة العربية في فترة القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من خلال جمع المرويات التي تتحدث عن المغازي والحروب وأساليب الكر وطرق توزيع الغنائم، التي خاضتها القبائل في ما بينها. وفي هذا الصدد يرى الصويان أن ما يهمنا من هذا الجمع والتعرف على هذه المرويات، لا علاقة له بالانحياز لسردية معينة أو التعرف على الغالب أو المغلوب، بقدر ما يهمنا أن نتعرف على طرقهم في شن الغارات والغزوات، بالإضافة إلى التعرف على العلاقات التي كانت تحكم العلاقة بين القبائل في حالات الحرب والسلم. وفي هذا السياق ينبهنا إلى أن التعامل مع المرويات الشفوية، يتطلب إدراك أن هذه المرويات ليست نصوصاً تاريخية موثقة ومحققة، بل هي عبارة عن مرويات شفوية تحفظ في الذاكرة وتتعرض بحكم محدودية الذاكرة الإنسانية للكثير من التحويرات. وهذا بالطبع لا يلغي من قيمتها التاريخية، لكن ينبغي التعاطي معها من هذه الناحية بمسؤولية وحذر، وفق مناهج التاريخ الشفوي التي تختلف عن مناهج التاريخ المكتوب، الذي يعتمد على الوثائق المكتوبة والسجلات المدونة.
ولأن النصوص الشفوية تنزع عادة نحو الانزلاق لا شعورياً من السرد التاريخي إلى السرد الملحمي، ومن التفكير الواقعي إلى التفكير الأسطوري، بحيث يتداخل التاريخ والأسطورة. ونظراً لانعدام أوعية حفظ المعلومات في المجتمعات البدوية الشفوية، واعتمادهم على الذاكرة فقط، فإن هذه الذاكرة تفرض آلياتها على شكل النص، بما يسهل حفظه ويضمن بقاؤه قيد التداول عبر الأجيال، من خلال تحويل الوقائع التاريخية إلى موتيفات أسطورية، بما يتماشى مع متطلبات الحفظ الشفهي وهذا ما يكون على حساب الواقعية والدقة التاريخية. من هنا يضطر الراوي أحياناً لسد فجوة في السرد القصصي أو للتعويض عن حلقة مفقودة في سلسلة الاحداث؛ إلى اقحام أي حدث يمكن أن يسد هذا النقص من الناحية الدرامية، بصرف النظر عن مصداقيته التاريخية. من هنا يغدو الاعتماد على النصوص الشفهية كمصدر تاريخي أمرا محفوفا بالمخاطر، لأن كل قبيلة تريد أن تشكل الأحداث بما يخدم اغراضها وأهدافها.
مع ذلك، يرى الصويان أن هذه النصوص الشفهية يمكن اعتبارها، رغم الملاحظات السابقة مصدراً أنثوغرافياً مهماً لفهم العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية، التي بقيت أمورا تشترك فيها كل القبائل والمناطق، وليس لأحد فيها ميزة على غيره. من هنا جاءت محاولته تدوين آلاف السوالف والقصائد، وفي تدوين إفادات الرواة، كما وردت على ألسنتهم بلهجات قبائلهم، مهما بدت متضاربة ومتناقضة، ومن ثم محاولة إعادة تفكيك وقراءة هذه المرويات والسوالف، باعتبارها تعمّق من معرفتنا بأنساق القرابة ونظم الاقتصاد ومفاهيم السلطة، في فترة تاريخية مهمة من تاريخ الجزيرة العربية (القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين). ومن بين المواضيع التي حاول الصويان دراستها بعمق في هذه الرحلة المعرفية الغنية، هي المرويات الشفوية التي تعرضت لمفهوم الغزو في حياة الجزيرة العربية، الذي نظرت له القبائل بوصفه ضرباً من ضروب الرياضة، وفق تعبير الهولندي كوربر شوك.
فالبدوي وفقاً للمرويات الشفوية يحن للغزو ليل نهار، كما أنه لا يعتبر الغزوة سرقة ولا سلوكاً شائناً يحط من قدر صاحبه، بل هي عادة ونشاط سياسي واجتماعي يميّز حياة البادية عن حياة الحاضرة، التي لا ترى فيه سوى مؤشر للاضطراب والفوضى وانعدام الأمن. وعادة ما يُمارس موسم الغزو عند البدو كنشاط موسمي، مثل الحراثة والزراعة عند الفلاحين، إذ يحل هذا الموسم قبيل فصل الصيف، حينما تبدأ القبائل تتجمع على آبارها في أماكن متباعدة تفصلها مساحات شاسعة من الرمال. وفي هذا الموسم تكثر الغارات الكبيرة، ويعتمد تجهيز الغزو على حجمه وهدفه والمسافة التي عليه أن يقطعها. ويتراوح حجمه من العشرات إلى المئات ويستغرق ذهابهم وإيابهم ما يقارب ثلاثة أشهر، يقطعون فيها مئات الكيلومترات، ويرسم لنا في هذا الصدد الشاعر فارس ابن شريان المطيري، في إحدى قصائده عن مغازي الشيخ خالد بن عقاب بن شويربات شيخ البرزان، صورةً عن هذه الرحلة، فيقول إننا في بداية انطلاقتنا كانت أباهر الإبل مرتفعة لسمنتها «مباهير» لدرجة أننا نضطر إلى التخلص من حشو الشدة ونرميها «ننطل» لنستطيع شدها على ركابنا. وفي نهاية الغزوة التي استغرقت مدة طويلة آلت إبلنا مثل السنانير في نحافتها وهزالها، وصرنا نبحث عما نحشو به الأشدة حتى لا تنزلق عن ظهور الركاب الهزلى التي طفقنا نرقع خفافها بالقد.
من ناحية أخرى، لا بد للغزو من قائد «عقيد» تتوفر فيه خصال القيادة، من شجاعة وحصافة وفراسة وسعد الطالع. والبدو يؤمنون بالحظ إيماناً قوياً، وبدون الحظ لا ينفع الإنسان شجاعته ولا ذكاؤه ولا ما يبذله من جهد مهما كان كبيراً. وتروي بعض المرويات الشفوية أن جديع بن ملحم (عقيد قبيلة عنزة) لمّا أفل سعده وتردّى حظه واغتصب منه الإمارة بنو عمه، قدم إلى ابن علي أمير حائل ليخطب منه بنته لعله ينجب منها أبناء نجباء يستردون ما افتقده من سعد الطالع «ابي أغدي يجين ولدٍ بناخي لك يقعد شدادي ويقوّم حظي».
والعقيد الذي يحالفه الحظ يتبعه الناس ويتبركون به ويؤمنون بصدق رؤياه ويعتقدون بأنه ملهم، ويحيطون منصبه بمسحة من القداسة وهالة من التبجيل والمهابة. كما يعتقد أن العقيد يورث ما حباه الله من حظ وبركة وإلهام إلى ذريته من بعده، لذلك فإنهم بعد موت عقيدهم يولون أحد أبنائه حتى لو كان صغيراً في السن منصب العقيد، ويطلبون منه قيادتهم في الغزوات تيمناً به وتبركاً. وغالباً ما يرى العقيد وهو في طريقه إلى الغزو رؤيا يتفاءلون أو يتشاءمون منها، ويستشفون منها النتيجة التي ستؤول إليها غزوتهم، ويسمون هذه الرؤيا «عرضة معاودية» أو حلم المعاودي، وربما ظهر له في المنام ما يسمونه «المنابي» ويلقي عليه كلاماً غامضاً يحتاج إلى تفسير وقد يعني لهم خيراً وقد يعني شراً. فمثلاً إذا رأى العقيد في منامه فرساً أو ناقة، أو قبّل بنتاً جميلة، أو لبس رداء جديداً، أو شرب ماء عذباً أو أكل طعاماً طيباً، فإن أياً من هذه الرؤى تعني فألاً حسناً وأنه سوف يوفق في غزوته ويعود منها سالماً غانماً. وإذا حلم أنه يقبض على نمر فهذا يعني أنه سوف يقتل عدواً مرهوب الجانب، ومن الرؤى المشؤومة في المنام أن يحلم أنه يقع في بئر أو يرى شخصاً أعمى أو شخصاً جريحاً.
من جانب آخر، إذا كانت الغزوات تشكل جانب العنف من جوانب المعادلة القبلية فإن «سلوم العرب» تمثل الجانب الآخر/الجانب السلمي الذي يحاول أن يدفع بالحياة ويؤمن استمرارها رغم الحروب. والسلوم هي لغة مشتركة بين البدو، وتعني الشيء الدارج والمتبع، وهي مجموعة من الأعراف والتقاليد، التي تحكم علاقة القبائل وتعاملاتهم مع بعضهم بعضا. ولأهمية السلوم يقولون في أمثالهم «قطع الخشوم ولا قطع السلوم». وبالعودة إلى العنف القبلي (الغزو) الذي لا يعود – وفقاً للصويان- إلى غريزة متأصلة في البدو أنفسهم، وإنما هي خاصية بنيوية متغلغلة في طبيعة النظام القبلي نفسه، الذي شكلته بيئة الصحراء بمواردها الشحيحة. لكن مع ذلك فإن الغزو غالباً ما يقوم على شجاعة البدوي وفروسيته، وهذه الشجاعة عادة لا تقوم على القتل والانتقام، بل غالباً لا يشتهر الفارس في الغزوات والمعارك إلا من خلال العفو عن عدوه، خاصة أن لا أحد مثل البدوي يعي صعوبة الحياة في الصحراء وتقلبات الدهر وأحوال الدنيا، لذلك لا يُسكره النصر ولا تحط من عزمه الهزيمة، والغالب دوماً يعامل المغلوب، مثل ما يجب أن يعامله إن كان هو الذي تحت رحمته. وبالتالي ليس الهدف من الغزو القضاء على الخصم ولا استعباده أو إذلاله، وإنما الهدف هو الاستيلاء على إبله واحتلال مراعيه بأقل ما يمكن من الخسائر في الأرواح، ولذلك يحرصون على التقيد بأصول لعبة الحرب وقوانينها، فلسفتهم في ذلك ودافعهم إليه هو أن الذي رمى بعدوك بين يديك اليوم قادر على أن يرميك بين يديه غداً، فلتحسن إليه ليحسن إليك حينما تكون في حاجة إلى جميله.

 

رابط المقال :

أيام العرب الأواخر: المرويات الشفوية والحوليات البطولية في الجزيرة العربية

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.