«يؤكد كتاب ولاة وأولياء ـ السلطة والمتصوفة في إسلام العصر الوسيط»، لمؤلفه د.محمد حلمي عبدالوهاب، والصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر ـ بيروت ـ 2009، على أن التصوف يصلح ليكون قاعدة مشروع سياسي مجتمعي.

وأنه في أضعف الاحتمالات، يمكن أن يشكل إطاراً عاماً لمشروع سياسي ناجع، كونه ينتج قيماً ذات مدلولات سياسية بيّنة، يأخذ بعضها معنى سياسياً محضاً، أو ينطوي في جانبه الفلسفي واللغوي العام، على جوانب تمس ظاهرة السلطة، وتبرز في هذا المجال مقومات الإمامة في الولاية الصوفية وعناصرها الرئيسة، المتمثلة في العصمة والشفاعة والكرامة.

ويبين الباحث ماهية التركيبة البنيوية للتصوف، والتي تفضي إلى أهليته لتأسيس مشروع مجتمعي سياسي نموذجي، بفعل تأسيه لقيم أخلاقية ـ سياسية، كالتسامح والانفتاح والانخراط والمشاركة ومقاومة التسلط، وترسيخه لقيمة حيوية في حياة المجتمع، تتجسد في ما يطلق عليه علماء النفس والاجتماع مبدأ «الثناقيمية»، أي القيم المتعارضة أو المتضادة.

حيث إن اللغة الصوفية توفر في رمزيتها قوة حضور التمسك والتعاون ووحدة الهدف والمصير والانتماء للجماعة داخل مجتمع المتصوفة، كما أنها، وعلى النقيض من ذلك، تُعزز من انتشار قيم التسلط داخل الجماعة، إذ تحتكر مجموعة ما القدرة على فك شيفراتها، وتحوز هي فقط صلاحيات تأويلها.

ومن ثم يكون بمقدورها أن تقود الأغلبية، وذلك من الذين تسهم محدودية معرفتهم في تقليص درجة حريتهم في التساؤل والنقاش والمعرفة، ويلفت عبد الوهاب في هذا الإطار إلى أن هذا يبقى رهناً بحركة الواقع أو استقلال وتمسك المتصوفة بالفكر المذكور، والماثل كمحك حقيقي يكشف واقع تحويل المتصوفة هذه الأفكار إلى طاقة إيجابية، أو أنهم استمرؤوا التخاذل واتسموا بالخنوع والسلبية، فلم يطبقوا أطروحاتهم بشكل عملي.

يجمع الكاتب محاور تناوله في الكتاب، ضمن أربعة أقسام وأبواب رئيسة، يجدها تعكس جوهر التصوف، وهي: الولاية، العصمة، الكرامة، الشفاعة. ويناقش بتوسع، مفهوم السلطة عند المتصوفة، استناداً إلى مناهج حداثية، محللًا علاقة السلطة بالمتصوفة.

ويشدد عبد الوهاب في قراءته لموقف المتصوفة من السلطة، على أن الاتجاه الغالب لدى المتصوفة هو معارضة السلطة على تنوعها، فالزهد في ما لدى السلطان من مال وجاه، يجعل المتصوف أكثر قوة في مواجهته.

وأعلى قدرة في التمرد عليه، ولذا-برأيه- كان رفض رشوة السلطان مقابل التخلي عن قضايا الجماهير أو مباركة التصرفات السلطوية ضد مصلحة الأمة، خياراً استراتيجياً لمعظم المتصوفة.

ويرى الباحث أن هذا يقودنا فعلياً لنستنتج أن اهتمام المتصوفة بالسياسة، لم يكن اهتماماً سياسياً أو تاريخياً فحسب، كما خُيّل للبعض، وإنما كان، إضافة إلى ذلك، اهتماماً صوفياً ينبع من مقام «التقوى» ويدور حول معاني العظة والاعتبار بالمعنى الصوفي، ففي الوقت الذي تلهج فيه العامة بحديث ساستها بغية «الحظوة»، يولع المتصوفة بحديث الأمراء والجبابرة ليقفوا على تصاريف قدرة الله فيهم، وينبع اهتمامهم هذا من قاعدة إيمانهم بمسؤولية الإنسان وواجبه تجاه مجتمعه ووطنه وأمته.

ويشير عبد الوهاب في فصول بحثه اللاحقة إلى أنه من البديهي ملاحظة معارضة المتصوفة واقع الظلم الذي يتكشف لهم بعين البصيرة، إضافة لالتزامهم بالحق والعدل والصدق، فهم أهل لهذا أساساً، ويتوقون لمعانقة الحق كوسيلة للخلاص من الواقع المرفوض، فيرون السلطة في أيدي من لا يفقه شيئاً، ويعكف على التلذذ بامتيازاتها، وهم يريدونها بالمقابل سلطة مثقف يحس في ذاته بما يزيد على المطالب الخسيسة للحكام.

وهذا تماماً كالقطب الذي يرى بنور الله ويتصرف وفق إرادته، ويجمل لنا الكاتب في هذا الخصوص، توضيحاً جوهرياً في مساق فكر وآليات عمل وتصورات المتصوفة، مدللًا على أن اتخاذهم لمقاطعة السلطة مبدأ محورياً، لا يعني عدم اهتمامهم بشؤون الخلق.

.

وإنما على العكس من ذلك، يعد هذا امتداداً لموقف بعض الصحابة والتابعين الذين اعتزلوا الساحة السياسية، معلنين رفضهم القاطع الدخول في سجالات سياسية ذات صبغة دينية، فالمتصوف يرفض سلطة الدين وقد وظفت في خدمة السلاطين، ويسعى جاهداً للاستقلال عن السلطة السياسية بارتفاعه المحايد عن هوى المتصارعين على السلطة، خاصة بعد ما ثبت لهم أن الأمة ماضية في طريقها للتضحية بالشريعة لصالح السياسة.

ومن ثم، كان موقف المتصوفة شديداً تجاه فقهاء السلطة الذين تحالفوا مع ممثلي السلطة السياسية مؤسسين لأقوى أنواع التسلط والقهر والاستبداد، إذ لم تتوقف أولوية السياسي على الديني-والحالة هذه- على جانب دون آخر، بل تشمل كافة الحقول التي تمارس فيها السلطة فعلها، فمن تبني منهج تصفية الخصوم وقمع المعارضين والمناوئين باسم الدين، إلى تبرير الاستعانة بالأعداء في مجابهة الثورات الداخلية، إلى إزاحة الأنداد داخل محيط الأسرة الحاكمة…إلخ. وفي جميع الأحوال، كان واقع ممارسة السلطة المستغلة للدين هو مصدر الداء.

الكتاب: ولاة وأولياء.. السلطة والمتصوفة في إسلام العصر الوسيط

تأليف: د.محمد حلمي عبدالوهاب

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت2009

الصفحات: 450 صفحة

القطع: المتوسط

محمد الحمامصي

رابط المقال :

https://www.albayan.ae/paths/books/2010-06-05-1.252274

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.