يعد هذا الكتاب رسالة رسالة دكتوراة للباحث فهد الحمودي وضعها تحت إشراف الدكتور وائل حلاق. يناقش هذا الكتاب صحة أصول نظرية مدار الإسناد التي أطلقها المستشرق الشهير جوزيف شاخت ولاقت قبولاً واسع النطاق في دوائر البحث العلمي الغربي المعاصر. تزعم النظرية أن أئمة الحديث وضعوا أحاديث نبوية ونشروها بين الرواة عن قصد لأهداف لديهمثم دعموها بأسانيد مختلقة. ومن أتباع هذه النظرية من أطلق عليهم (الشاختيون) أمثال جي يونبل ومايكل كوك.وقد قسّم المؤلف دراسته هذه إلى خمسة فصول:
الفصل الأول: ظهور نظرية المدار وتطورها.
الفصل الثاني: الاختلاف حول تفسير نظرية المدار والموقف منها.
الفصل الثالث: نقد أدلة نظرية المدار.
الفصل الرابع: فهم المحدثين لنظرية المدار وقصور شاخت عن إدراك مناهجهم.
الفصل الخامس: لوازم بطلان نظرية المدار.

ظهور نظرية المدار وتطورها

يتتبع هذا الفصل ويحقق في كيفية تكوّن نظرية المدار متتبعًا أصول نشأتها ومن ثمّ مراحل تطورها موضحًا علاقتها ببقية نظريات جوزيف شاخت، ومقارنًا إياها ببقية النظريات المتعلقة بظهور علم الحديث.
رغم أن شاخت لم يكن هو أول من تكلم في أصول السنة من المستشرقين، فقد سبقه إلى ذلك غولدتسيهر وسنوك هورغرونج وشبرنجر، إلا أنه هو من تولى تطوير نظرية متكاملة وعلمية في محاولة لرد الروايات الحديثية. وفي أولى محاولاته للاعتراض على حجية السنة النبوية تبنيى شاخت نظرية أن السنة ليست إلا مجموعة من الأقوال المضطربة التي جُمعت في أوقات مختلفة عن طريق أشخاص غير معروفين.

مرّت نظرية المدار لدى شاخت بعدة مراحل، ففي كتابات شاخت نفسه نرى بوضوح تغيرًا في نظرته إلى السنة النبوية، وقد سبق تقديم شاخت لنظرية المدار في كتاب أصول الفقه المحمدي ما يمكن بوصفه بذورها في عدة أفكار جزئية يمكن إجمالها فيما يلي:

* العامل التاريخي: يرى شاخت أن ظهور الحديث إنما يرجع في حقيقته إلى العامل التاريخي الذي يراه في العناصر الدخيلة على الشريعة التي برزت مع توسع حركة الفتوح واختلاط المسلمين بأصحاب الحضارات السابقة، مما حتّم على المسلمين –إذا أرادوا أن يظهروا بمظهر مستقل- أن يدعوا أن ما قبلوه من عناصر دخيلة جديدة يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه. ولذا يرى شاخت أن كل ما تشربه الإسلام خلال القرون الأولى تحتم أن يُختم بخاتم السنة. ونتيجة لذلك فإن أصول تلك السنة غدت مخفية.كما أكد شاخت كذلك على دور العوامل السياسية في نشأة السنة وهي العوامل المتعلقة بنقل العاصمة من المدينة المنورة إلى دمشق حيث يرى أن علماء المدينة ردوا على هذا التحول السياسي بإبراز مكانتهم فأعطوا ثقلاً لأقوال وعمل أسلافهم من أهل المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة ما كان معمولاً به عند أكثريتهم.

* نظرية النمو العكسي: يرى شاخت أن الإسناد له خاصية “النمو العكسي” وعنى شاخت بهذه النظرية أن الحديث يُخترع من قِبل تابعي أو يصل إليه من مصدر ما فيرفعه إلى صحابي، ومن ثمّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أراد شاخت من هذه النظرية إلى تحديد تاريخ دقيق لبداية ظهور السنة كمصدر لتوثيق التطورات التاريخية للمذاهب الفقهية.

*نظرية إسناد العوائل: بعد ذلك قدم شاخت نظرية إسناد العوائل التي اعتبرها شكلاً أوليًا من أشكال نظرية المدار، وتبعًا لهذه النظرية فإن شاخت يرى أنه متى ما ادعى أحد الرواة زيادة توثيق مروياته بالرواية عن طريق عائلة واحدة، مثل رواية الابن عن أبيه عن جده، أو من الراوي عن عمه أو عمته، فإنه يسهل حينئذ التأكيد على أن أسانيد العوائل ليست علامة على الحجية، بل أداة لإخفاء مظهرها.

*نظرية السكوت عن الدليل: ومفادها أن “أفضل طريقة لإثبات أن حديثًا ما لم يكن موجودًا في وقت ما هي أن نبين أنه لم يُستخدم كدليل فقهي في نقاش سابق كان ينبغي فيه الاستدلال بذلك الحديث لو كان موجودًا.”

*نظرية المدار: وهي المحور الأهم على الإطلاق وهي نسخة مطورة عن نظرية “إسناد العوائل”، وخلاصة هذه النظرية أن حديثًا روي عن طريق راوٍ معين هو فلان بن فلان، أو عن طريق شخص أخر استخدم اسم ذلك المحدّث في وقت محدد. هذا الحديث سيؤخذ عادة عن طريق راوٍ أو أكثر، والأدنى منهم سينشر الإسناد إلى عدة طرق. والمصدر الأصلي، أي فلان بن فلان، سيكون قد وضع إسنادًا لحديثه يرفعه إلى حجة أعلى كالصحابة أو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الجزء المختلف من الإسناد سيتطلب دائمًا متابعات أخرى لتقوية الإسناد عن طريق نشره، ولكن فلان بن فلان سيبقى هو الجزء الأدنى من الإسناد وهو “المدار” في عدة طرق للإسناد.

الاختلاف حول تفسير نظرية المدار والموقف منها

أولاً: المؤيدون لنظرية مدار الإسناد

لقيت نظرية المدار قبولاً واسعًا في الغرب وانتشرت على نطاق واسع من خلال كتابات كل من مايكل كوك وينبل، علمًا بأن كلاً منهما كان له منطلق يختلف عن الآخر في تفسير النظرية. فقد طبّق كوك النظرية على مجالات أخرى غير الفقه في الدراسات الإسلامية، حيث إنه طبقها في العقيدة على وجه الخصوص. ولم يكن كوك وحده من دعا إلى التوسع في دراسة تطبيقات نظرية المدار على المجالات الأخرى. ومنهم جيمس روبسون و غريغور شولر.
أما موقف يونبل، من جهة أخرى، فيعكس منهجًا مختلفًا لدراسة نظرية المدار. فمنهجه يقوم على توسيع نظرية شاخت وتطبيقاتها حول مدار الإسناد في الدراسات الحديثية. ولا يتوقف تأييد نظرية شاخت في الأوساط العلمية الغربية على كوك ويونبل فقط فقد أيدها مع بعض التحفظات هارالد موتسكي، وإم جي كيستر، وجانيت راكن. كما كان لشاخت بعض الأتباع المتطرفين أمثال باتريشيا كرون وأندرو ريبن وجيرالد هاوتينج الذين شككوا في إمكانية الاعتماد تاريخيًا على السنة كإطار مرجعي للقرآن.

ثانيًا: المعارضون لنظرية مدار الإسناد

رغم أن نظريات شاخت تم تبنيها بدرجة كبيرة في الأوساط الأكاديمية الغربية، إلا إنها لم تعدم وجود معارضة قوية لها في نفس الأوساط وفي الأوساط العربية والإسلامية أيضًا. وقد قسّم المؤلف معارضي النظرية إلى ثلاثة مجموعات محللاً المنحى الفكري لكل مجموعة على حدة:

المجموعة الأولى: وهي تضم العلماء الذي سلكوا منهج النقد العام، ونَحَوا إلى تجاهل عدد من المشكلات الدقيقة تضمنتها مؤلفات شاخت. ومن هؤلاء هاميلتون جب ومونتجومري وات اللذين لـمّحا تلميحًا إجماليًا إلى أن شاخت قد أبعد النجعة في نظرياته حول الشريعة الإسلامية. لكن أشد النقود تركيزًا تم توجيهه من قبل فؤاد سزكين ونبيهة عبّود اللذان يمثلان رؤية عامة تتعارض مع تلك التي قدمها شاخت. وقدمت نبيهة عبود أدلة على صحة نظريتها تتضمن برديات تعود إلى القرن الهجري الأول تتضمن كتابات شرعية مستندة إلى أحاديث نبوية، مبطلة بذلك زعم شاخت أن الأحاديث النبوية ظهرت في الفترة بين 150 – 250 هـ.

المجموعة الثانية: وهي مجموعة بينية حاولت تقديم نقد تفصيلي معمق لشاخت لكن بمنهج غير مركز، وقد توجهوا بخطابهم إلى القارئين العربي والغربي على حد سواء. ويحصر المؤلف هذه المجموعة في سليمان الجار الله وأطروحته المعنونة بـ”أصول الحديث: دراسة نقدية لمنهج غربي في الموضوع”، وعبد اللطيف الطيباوي الذي قدّم مراجعة لكتاب شاخت “أصول الفقه المحمدي” حاول فيها أن يعالج بعض المشكلات التي أثارها شاخت والمتعلقة بتاريخ التشريع الإسلامي، وحاول فيها القول أن النظرية الرئيسة للتشريع الإسلامي التي أوردها شاخت لم تكن “متعارضة كليًا” مع الإسلام. وأخيرًا البروفسور محمد مصطفى الأعظمي الأستاذ الشرفي بجامعة الملك سعود الذي قدّم دراسة نقدية شاملة عن شاخت، إلا أن طرحه – حسب المؤلف- لم يحقق الهدف لأنه كان ذا لهجة هجومية حادة، وافتقر إلى رؤية واضحة كان من شأنها ان تزيد من عمق دراسته وسعتها.

المجموعة الثالثة: النقاد العرب، وهي تتضمن علماءً كتبوا بالعربية وخاطبوا القارئ العربي معتمدين اعتمادًا كليًا على كتابات وتفسيرات المجموعة الثانية؛ وقد جاءت كتابات أصحاب هذه المجموعة مرتكزة على نقاط محدودة من مؤلفات شاخت، بينما أغفلت النظرية الكلية. وقد انقسمت هذه المجموعة إلى ثلاث فئات فرعية:

الفئة الأولى: رفضت نظريات شاخت رفضًا تامًا، ومنها الأستاذ عبد العظيم المطعني، والأستاذ مصطفى السباعي.

الفئة الثانية: انتقدت شاخت على نحو مفرط في السطحية ومن دون أدلة تثبت صحة دعواها، وهي مجموعة حملت على المستشرقين عمومًا ومنهم نذير حمدان وكتابه مستشرقون.

الفئة الثالثة: وهي مجموعة قليلة من النقاد العرب الذين وقفوا موقف المواجهة المباشرة لنظريات شاخت، ولكنهم حتى الآن لم يصلوا لنتيجة موثوقة ومنصفة حسب المؤلف. ومنهم الدكتور نور الدين عتر، والدكتور عابد السفياني، والدكتور عصام البشير.

نقد أدلة نظرية المدار

في هذا الفصل يحاول المؤلف سد ثغرة النقود العربية الضعيفة لعمل شاخت حول أصول الفقه الإسلامي من خلال نقده للشاهدين اللذين قدمهما شاخت للتدليل على صحة نظريته. ويستغرب المؤلف اعتماد نظرية شاخت بأكملها على حديثين هما حديث “بيع الولاء” وحديث بريرة؛ إذ حتى في حال ثبوت اختلاقهما فإنه يستحيل جعل هذين الحديثين قاعدة عامة تُجيز القول أن السنة كلها مختلقة.
ونظرًا لضيق المساحة سنقدم نقد المؤلف لأدلة شاخت حول حديث “بيع الولاء فقط. يقول شاخت إن إسناد هذا الحديث ينتهي بابن دينار في كل رواياته. ويعني ذلك أن الحديث المذكور نقله ثمانية رواة أخذوه جميعًا عن ابن دينار، وأن ابن دينار هو الذي أخذه من ابن عمر، وابن عمر هو وده من أخذه عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا يرى شاخت أن مدار الإسناد، أي المختلق لهذا الحديث، هو ابن دينار الذي نقل الحديث إلى ثمانية رواة.
ويرى الحمودي أنه إذا ما نحينا فرضيات شاخت قليلاً، فإنّ التدقيق الشامل لأمهات مصادر الحديث يكشف لنا عن نتيجة مذهلة تتعراض تمامًا مع إدعاء شاخت. إذ أن الحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر وعثمان بن عفان رضي الله عنهما. كما أن ابن دينار لم يكن هو الوحيد الذي نقله عن ابن عمر، بل نقله عنه راوٍ أخر هو نافع. كما أن الحديث ليس له ثمانية رواة فقط كما ادعى شاخت، بل خمسة وثلاثون راويًا.
وفي الفصل الأخير من الكتاب يقدم الحمودي نقدًا مركزًا للجذور التي أنبتت نظرية المدار لدى شاخت، وهي نظية النمو العكسي للإسناد، ونظرية إسناد العوائل، ونظرية تاريخ وضع الأثر.

خاتمة
لقد ظهرت دراسة الحديث عند السلف في ظروف تاريخية معينةـ واتخذت مسارًا معينًا. ولطالما كان الحديث بالنسبة إليهم مجالاً علميًا مستقلاً له أصحابه المتمرسون، وله منهجيته الخاصة، وله تاريخه العلمي. ولذلك فإن علماء الغرب سيستفيدون فائدة أعظم بالحوار مع المحدّثين. وبتعبير أدق فإن توجيه النموذج البحثي لدى علماء الغرب بحيث يُراعى فيه مصطلح الحديث، وعلم الرجال، ومنهج المحدّثين، ودراسة الإسناد سيثري الدراسات الغربية بدرجة كبيرة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.