مسألة الحرب العادلة في الإسلام

إن هذا الكتاب يتطلع إلى وصف كيفية ممارسة الشريعة الإسلامية بين المسلمين المعاصرين وذلك من خلال تفسير مصطلح الجهاد الذي أصبح يرتبط في أيامنا هذه، بأكثر المعاني إرهاباً وتضليلاً.
يقدم جون كلسي ( أستاذ باحث في أخلاقيات الدين – جامعة فلوريدا، الولايات المتحدة الأمريكية) في كتابه، تفسيرات واضحة لظروف الجهاد الذي يتبعه المسلمون بحسب التقليد الإسلامي، مرتكزاً في تفسيراته هذه إلى الأحداث التاريخية السابقة من جهة، وإلى الآيات القرآنية من جهة ثانية.
فهذا الكتاب هم عمل راقٍ يقوِّم الحجج الإسلامية المرتبطة بمنطق الشريعة الإسلامية، ويزيل أي التباس عند المسلمين وغير المسلمين حول مسألة الحرب العادلة.

إن واحدًا من أهم مقاصد هذا الكتاب كما يبين المؤلف –جون كلسي- هو تزويد قارئه بتوصيف دقيق ومنتظم للمنظور الديني للقاعدة، وغيرها من المجموعات الناشطة. وأرقى ما يتطلع إليه الكتاب، هو وصف كيفية ممارسة منطق الشريعة الإسلامية بين المسلمين المعاصرين، وبخاصة بالنسبة إلى النقاش الدائر حول القوة المسلحة والأخلاقيات السياسية المستوحاة من الحُجج والحيثيات التي يسوقها الناشطون الإسلاميون؛ فالشكل الذي يتخذه النقاش المرتبط بمنطق الشريعة، يقتضي ضمنًا الاحتكام إلى السنة، بحيث يجري تقويم الحجج على أساس تبيان الفرق بين أفضلها وأسوئها، بين المقنع منها والعاجز عن الاقناع، بقياس الطرق التي يعتمدها المدافعون عن مواقع مختلفة، في استخدامهم الشواهد التاريخية؛ فالاختلافات القائمة بين الأفكار السياسية التي يطرحها الناشطون الإسلاميون وتلك التي يطرحها مسلمون آخرون، لم تجد لها حسمًا عبر الدعوات إلى الاحتكام إلى مبادئ أخرى أكثر اتساعًا أو تجريدًا، كالمساواة واحترام استقلالية الأشخاص.

والواقع أن المسلمين اليوم مقحمون في جدال جدي حول الأخلاقيات السياسية، وهو جدل يتوسل الممارسات والأعراف الواقعة في صلب التقليد الإسلامي، لغة يعبر بها عن مكنونه، ومقاصده؛ فمن المسيحيين الإنجيليين البارزين والمحلِّلين المحافظين وغيرهم، من ادعى في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ارتباط الإسلام عضويًا، بل قل صميميًا وجوهريًا بالعنف الأعمى الذي يضرب دونما تمييز، في وقت ينبري فيه المسلمون المدافعون عن دينهم وأولئك الملتزمون بالتنوع الثقافي، إلى تأكيد انتفاء أي علاقة للإسلام بعنف من هذا النوع. والحقيقة –كما في معظم الحالات- أكثر تعقيدًا مما هي عليه هنا، ذلك أن الإسلام سنة حية، يتوسلها الرجال والنساء في سعيهم إلى تشكيل الروابط بين حكمة الأجيال السالفة والتحديات التي تفرضها عليهم الحياة المعاصرة، آملين التصرف والعمل بطرق متساوقة متناغمة مع هدي الله وإرشاده، وإن من شأن منطق الشريعة، أن يشكل واحدة من هذه الصيغ، إن لم يكن أولها، التي يعتمدها المسلمون في مسعاهم هذا.

إن فهم الحجج الإسلامية حول الحرب العادلة يتطلب إذن كمًا كبيرًا من المعرفة التي يروي بها المسلمون تاريخ نشوء معتقدهم وتطوره، وهو تاريخ عُني الفصل الأول من هذا الكتاب، المعنون بـ “في الأصول” بتحديد ملامح بعضٍ من وجوهه الأكثر جوهرية، وذلك في معرض الإجابة عن سؤال: “ماهو الإسلام؟”، فجاءت الأجوبة المختلفة لتوفر السياق التاريخي والديني الذي يمكَّن العقل في ضوئه، من إدراك الحجج الإسلامية المتعلقة بالحرب والأخلاقيات السياسية.

ويستفيض الفصل الثاني المعنون بـ “في منطق الشريعة وتسويغ أحكامها” في شرح كيفية توصُّل المسلمين إلى إجماع حول سلسلة المناهل الملائمة في نظر أولئك المشتغلين بمنطق الشريعة وتسويغ أحكامها، وحول القواعد التي تسوس تفسير النصوص المتوافق عليها. وفي سياق هذا التطور، كان نمو طبقة من المختصين، أو العلماء حاسمًا.

أما الفصل الثالث المعنون بـ “في السياسة والأخلاق والحرب في الإسلام الكلاسيكي”، فيُعنى بتحديد أكثر الأحكام السياسية والعسكرية أهمية والتي قدمها أعضاءٌ انتموا إلى هذه الطبقة –أي العلماء- خلال الحقبة الممتدة بين عامي 750-1400م. ذلك أن معظم “أحكام الجهاد”، أو تلك المتعلقة بالكفاح المسلح، تنبثق من تلك الحقبة، التي بلغ خلالها النفوذ الإسلامي السياسي أوجه. ولقد كان من شأن هذه الآراء أن زودت المسلمين المعاصرين بسلسلة من المراجع المعتمَدة، أو “السوابق المُجمع عليها”، التي يسعون بواسطتها إلى قياس الحقائق والأباطيل في مقولات محددة تتعلق بالاستخدامات السياسية للقوة العسكرية.

أما الفصلان الرابع والخامس، فيناقشان الحجج المعاصرة والنتائج التي آلت إليها. فيُعنى الفصل الرابع المعنون بـ “في المقاومة المسلحة والتقليد الإسلامي” بتفصيل الطرق التي يمكن على ضوئها فهم نشطاء اليوم كأكثر المناصرين حداثة لحجة قدمها العديد من المسلمين خلال القرنين الأخيرين. ولو شئنا تبسيطها لقلنا إنها حجة تملي على المسلمين كيفية السلوك والتصرف عندما لا يكونون في موقع السلطة. ولو شئنا التبصر بتفاصيلها، لوجدنا أن هذه الحجة إنما تعالج مسائل تتعلق بتسويغ وقيادة المقاومة المسلمة، فتعتمد فيما تنهجه السعي إلى “مط”، أو مد السوابق المجمع عليها والمرتبطة بأحكام الجهاد الصادرة في الحقبة السابقة للحداثة، لتصل بها إلى الأوضاع الجديدة التي أوجدها الاستعمار الأوروبي، وتلك التي ولدتها منذ عهد قريب للغاية الهيمنة الجيو-سياسية للولايات المتحدة. ولعل أقل ما يمكن قوله في هذه الحجة المعنية بمفهوم المقاومة، هو أنها، وبما تثيره من جدل، مسألة خلافية تستدعي طرح أسئلة مهمة.

ويقيم الفصل الخامس المعنون بـ “في العمل السياسي والسلطة العسكرية” الدلائل والبراهين على أن الخلاف والجدل حول التسويغات التي يُدلي بها النشطاء بشأن المقاومة المسلحة إنما يؤشران إلى أزمة تطال الشرعية أو المشروعية في الفكر الإسلامي؛ فالحجج الماثلة على هذا الخلاف بكل جوانبه، تعكس النقص في إجماع المسلمين بالنسبة إلى تحديد هوية السلطة الشرعية أو السلطة الصالحة لتولي شئون الدولة. كما يمكن لهذه الحجج أن تُفسر كانعكاس لأزمة في منطق الشريعة نفسه؛ فالسؤال حول من يحق له التقرير في مسائل السياسية، بما فيها تلك المتعليقة باستخدام القوة العسكرية، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسؤال آخر: من لديه الحجة الصائبة في عملية تحديد نوع النظام السياسي الذي تقتضيه الشريعة؟ فالنشطاء يقيمون برامجهم في المقاومة المسلحة في سياق رؤية خاصة للنظام السياسي؛ وهم، إذ يفعلون ذلك، يستترون بالسابقة التاريخية، أي أنهم يتخذون من الشريعة غطاءً، فيما يشير مسلمون آخرون، يُعبِّرون عن رؤية مختلفة، إلى مناهل يشتمل عليها منطق الشريعة نفسه، تُوافق على أشكال سياسية ديمقراطية وتدعمها.

وفي ظل وجود هذا الكم من الرؤى التنافسية، أيمكن الجزم أي من الجهات هو الصحيح أو الصائب، أيمكن التكهن بالجهة التي ستكون الغلبة لها؟

أما الفصل السادس والأخير المعنون بـ “في الحجة الإسلامية والحرب على الإرهاب”، فيختتم الكتاب بالقول إن الكثير يتوقف على الطرق التي تعتمدها مجموعات من المسلمين لإدراك حيزها السياسي، علمًا أن هذا الإدراك يختلف باختلاف وجهة حديث المرء، أي ما إذا كان يتحدث عن الولايات المتحدة، أو عن الاتحاد الأوروبي، أو عن الصلب التاريخي للعالم الإسلامي (أي دار الإسلام التاريخية).

ويعمَد الفصل السادس كذلك، إلى تبيان أن التفكر في إمكانات نجاح الحجج التي يطرحها المسلمون المدافعون عن الفكرة الديمقراطية والمؤيدون لها، لا يقل أهمية عن كيفية إدراك المسلمين للنهج الذي تعتمده كل من الولايات المتحدة وحلفائها، فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.