< كان للمجتمعات البشرية كلها عبر التاريخ كتّابها وخبراؤها وأدباؤها وفنانوها. فالصين عرفت طبقة الموظفين الكبار المتعلمين، كما عرفت الهند العلماء وأصحاب الرؤى، أما الإسلام فكان له كتّابه ومؤرخوه، وأدباؤه وشعراؤه، ومفسرو القرآن من أهل الفقه والتشريع. لكن تلك المجتمعات لم تكن تعرّف أدباءها وخبراءها وفنانيها باسم المثقف والمثقفين، بل باسم الشاعر والمؤرخ والفيلسوف والجغرافي والعالم. وبذلك نجد أنفسنا أمام تسميات تشير الى حرفة أو مهنة أو مؤسسة يتصف به المنتسب إليها.
أما المثقف، كفرد وكمجموعة فلم يوجد إلا في الأزمنة الحديثة في أوروبا الغربية بعد أن قطعت مع عالمها القروسطوي، ومجتمعها الانقسامي القائم على أساس التضامن الآلي بتعبير دورتلهايم لتبني مجتمعاً حداثياً، يعرف تضامناً عضوياً، وتقسيماً للعمل الاجتماعي، أفضى الى استقلال الحقول الاجتماعية عن بعضها نسبياً ومن بينها الحقل الثقافي.
بهذا المعنى يقتصر لفظ المثقفين في أوروبا، وفي فرنسا، بخاصة الى رجال الفكر الذين يعتبرون أنفسهم مؤهلين بالنظر الى تميزهم العلمي والمعرفي للتدخل في الشأن السياسي بغية الكشف عن الحقيقة والدفاع عن القيم التي تحاول السلطات القائمة طمسها أو تزويرها. إن المثقف إذاً، هو في جوهره ناقد اجتماعي. إنه الشخص الذي همّه أن يحدد ويحلل ويعمل، من خلال ذلك، على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظام أكثر إنسانية وأكثر عقلانية.
يعتبر الباحث المغربي عبدالسلام حيمر في كتابه الجادّ والقيّم الصادر في بيروت عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر تحت عنوان”في سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين”أن اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها كلمة مثقف، وشاعت في الاستعمال بصفتها اسماً يدل على هؤلاء الدريفوسيين نسبة الى الفرد دريفوس 1895 ? 1935 قبطان في الجيش الفرنسي اتهم بالتجسس لمصلحة أمانيا وحُبِس، لكن بعد طول عناء وبحث أفرج عنه وأعيد له الاعتبار الذين تجرأوا على فتح نقاش واسع في الساحة العمومية، حول أولوية القيم الكونية الإنسانية على القيم الخاصة والوطنية والقومية والإثنية، بعد أن أتوا ? بحسب كليمنصو ? من كل الآفاق، وتجمعوا حول فكرة. فكرة الدفاع عن قضية إنسان بريء. وفكرة الصدح بحقيقة براءته في وجه كل المؤسسات العسكرية والمدنية التي تواطأت، تحت ضغط مصالحها الفئوية والوطنية والدينية، على دفن الحقيقة وتزييفها، وارتكاب أقصى درجات العسف والظلم.
إن العودة الى اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها كلمة مثقف توصلنا الى الكاتب الفرنسي إميل زولا 1840 ? 1902 الذي مثّل بسلوكه وفعله صورة المثقف الكوني أفضل تمثيل.
كان زولا قبل اطلاعه على قضية دريفوس مهتماً أكثر ما يكون بالرواية، وبقضايا الإبداع الروائي. ولكن بعد اطلاعه على قضية دريفوس عاش أزمة ضمير ناجمة عن أنه يعرف الحقيقة، وأنه إذا لم يصرّح بها للرأي العام، فإنه سيكون متواطئاً مع الجلادين، وسيخون ذاته بصفته كاتباً مبدعاً، لا تقوم له قائمة من دون توافر الحرية، وما يرتبط بها من قيم كونية إنسانية. لذلك كتب الى رئيس الجمهورية فيليكس فور رسالة نشرتها جريدة”لورور”عام 1898 بدأها بالقول إني أتهم J,accuse.
كان زولا قبل كتابة الرسالة سيدخل التاريخ الثقافي الفرنسي بصفته روائياً شهيراً فقط لا بصفته مثقفاً. أما بعد أن كتب الرسالة فدخل التاريخ بصفته مثقفاً انطلاقاً من الشعور بواجب الكلام، بواجب قول الحقيقة. فالمثقف إذاً، هو هذا الكاتب أو الأديب أو العالم أو الصحافي، أو الفنان الذي يترك وظيفته الثقافية الأصلية التي يعترف المجتمع بقيمتها وضرورتها، لينخرط في وظيفة تبدو مغايرة، لم يطلب منه أي أحد أن يقوم بها، بل قد تعرض حريته وحياته للخطر. هذه الوظيفة المغايرة هي الانخراط في معترك المجال العمومي، والالتزام بالدفاع عن القضايا العادلة في مجتمعه، وفي المجتمع البشري بعامة.
إن الحكم الذي يصدره المثقف على أية قضية من قضايا الإنسان والمجتمع، لا يستمدّ شرعيته من كون تلك القضايا تدخل بالضرورة في نطاق مؤهلاته وصلاحياته العلمية والمعرفية، بل يستمد شرعيته من ذاته، من قيمته لدى الناس، ومن مجرد شعوره بضرورة القيام بالواجب وفق المفهوم الكانطي للواجب. واجب قول الحقيقة وتنوير الرأي العام بمعرفتها، ومحاربة الذين يتجرأون على تزييفها أو التعتيم عليها. إن واجب قول الحقيقة الذي يضطلع به المثقف يدخله الى المجال العمومي، مجال السياسة، من دون أن يجعله بديلاً لرجل السياسة. ذلك أن الغاية من فعله، ليس الوصول الى سُدّة الحكم التي هي غاية كل فعل سياسي، بل غايته تكمن في مجرّد تنوير الأذهان والأفعال بالكشف عن الحقيقة، والانتصار للقيم الكونية الإنسانية المرتبطة بها كالعدل والحرية والحق.
في”مرافعة دفاع عن المثقفين”وهو كتاب للمفكر الفرنسي جان بول سارتر يعرّف سارتر المثقف أولاً بوجوده، وثانياً بوظيفته في المجتمع المعاصر مستنداً الى أساسين نظريين، طالما حرص على تبيان انسجامهما، هما الرؤية الفلسفية الوجودية، والتحليل الماركسي في أحدث طبعاته آنذاك، وأبعدها عن النزعة الوثوقية، أي في صيغته الغرامشية. يرى سارتر أن المثقفين هم نتاج تاريخ طويل معقد، مرتبط بتاريخ تشكّل الحداثة في فرنسا منذ نهاية القرون الوسطى، مسار أدّى الى تكون وتطور تقني المعرفة العملية في ارتباط وظيفي مع تكوّن الطبقة البورجوازية الحديثة وتطوّرها في المجتمع الفرنسي والأوروبي في شكل عام. هؤلاء التقنيون كما يسميهم سارتر، هم مثقفوا الطبقة البورجوازية الصاعدة، ذات المشروع المجتمعي المستقبلي، المناهض للنظام الاجتماعي الإقطاعي، المتحالف مع رجال الكنيسة، والساعي الى إرساء حرية الإنسان ومساواته بغض النظر عن المولد والجنس واللون والعقيدة، وتبشّر فضلاً عن ذلك كلّه بالأخوة ما بين البشر، لا على مستوى المجتمع الدولي أو الإنسانية برمتها أيضاً.
يذكّر تحليل سارتر للعلاقة بين تكوّن اختصاصي المعرفة العملية، أي المثقفين، وتشكل العلوم والمعارف الحديثة من جهة، والطبقة البورجوازية من جهة أخرى، بتحليل ميشال فوكو للعلاقة بين المعرفة والسلطة، وتشكل العلوم الإنسانية بصفتها تكنولوجيا للسلطة في خدمة سيطرة الدولة الحديثة على المجال والبشر الذين يحبون في أرجائه، كما يذكر تحليل سارتر بتحليل أنطونيو غرامشي للمثقفين العضويين. فالمثقف العضوي، الذي تحدث عن غرامشي، والمثقف الكوني الذي حاول سارتر أن يرسم صورته مع صعود الطبقة البورجوازية في أوروبا هو منتوج تاريخي، لا تعترف به الطبقات الاجتماعية التي يتكوّن منها هذا المجتمع كما يقول سارتر ولا تستسيغه الطبقة السائدة، أما الطبقة العاملة فتحذر منه لأنه لم يولد من صلبها. يكتب سارتر بهذا الصدد:”إن المثقف لا يتوافر على توكيل من أحد، ولم يتلق وضعه في المجتمع الحديث من أي سلطة، إنه بصفته تلك، ليس نتاجاً لأي قرار، كما هي حال الأطباء والأساتذة… الخ. الذين هم خدّام ورجال سلطة وحكم، بل نتاج شيطاني لمجتمعات شيطانية. لا أحد يطلبه، ولا أحد يعترف به، لا الدولة ولا نخبة السلطة، ولا جماعات الضغط، ولا أجهزة الطبقات المستقلة ولا الجماهير…”.
تفترض نظرية سارتر عن المثقف الكوني تصوراً قانونياً للسلطة، يقضي بكونها متحيزة في المكان، يمتلكها بعض الناس، ويُحرم منها آخرون، فهي توجد في ملكية من يملك وسائل الإنتاج، تحتكرها الطبقة السائدة، ولا يمكن للطبقة المسودة أن تستعيد حريتها المسلوبة إلا بمعركة شاملة كلية، يساهم فيها المثقف وتنتزع فيها السلطة ومن يد الطبقة السائدة، لتضعها في خدمة الإنسانية جمعاء، وفق المبادئ والقيم الكونية، قيم العدالة والحقيقة والحرية والمساواة.
في المقابل يرى المفكر الفرنسي ميشال فوكو أن زمن مثقف سارتر الكوني الذي كان يعطي الدروس للناس في ما يتعين عليهم أن يختاروه من خيارات سياسية ضد جبروت السلطة الحاكمة قد ولّى وانقضى. وأتى زمن مثقف من طراز جديد، أكثر تواضعاً من المثقف الكوني، وأكثر فاعلية منه في الآن نفسه. إنه المثقف الخصوصي الذي بدلاً من أن يتحدث محل الناس، يتحدث انطلاقاً من محله، خبيراً وتقني معرفة متخصصاً في هذا القطاع أو ذاك من قطاعات الحياة، كالأميركي روبرت أوبنهايمر 1904 ? 1967 الذي مثل بآرائه ومواقفه نقطة انتقال من المثقف الكوني الى نمط المثقف الخصوصي، إذ كان يتدخل في الساحة العمومية متحدثاً عن مخاطر الذرة، وعن الحرب والسلم، من موقعه الخصوصي في المؤسسة العلمية، بصفته عالماً خبيراً في شؤون الفيزياء النووية.
في موقع آخر، يرسم عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في تحليله السوسيوتاريخي لمسار المثقفين صورة للمثقف تتكون تقاسيمها من تقاسيم مثقف سارتر الكوني، ومثقف فوكو الخصوصي. ذلك أن المثقفين في العالم المعاصر يوجدون في وضعية اجتماعية تجعلهم عندما يدافعون عما هو خصوصي، إنما يدافعون عما هو كوني، فالخصوصي والكوني إذاً بهذا المعنى، بعدان أساسيان مكونان لشخصية المثقف منذ بداية وجوده التاريخي. المثقف الذي يدعوه بورديو للتكتل مع زملائه في أممية للمثقفين، والانضواء في نقابة للشمول العقلي والإنساني، وأن يفرض ذاته مع اخوانه باعتباره سلطة عالمية للنقد وحراسة القيم.
رابط المقال :
http://www.alhayat.com/article/1418622/%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81%D9%8A%D9%86-%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%AD%D9%8A%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81%D9%88%D9%86-%D8%A8%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1%D9%87%D9%85-%D9%84%D8%A7-%D8%A8%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%85-nbsp