يعود محمد الشيخ في كتابه الجديد «فلسفة الحداثة في فكر هيجل » بالقاريء إلى المنابع الأولى كي يبصّره بآليات تطوّر الوعي وصولاً إلى هيجل، فيربط إشكاليات فلسفة الحداثة النظرية به وبجهوده الفلسفية التي أفضت بنا إلى ما نحن عليه، إذ يؤكّد المؤلّف في مقدّمته أنه مع الحداثة صارت علاقة الإنسان بالزمن متناقضة عمّا كانت عليه تحوّل معها الإنسان من الدينونة إلى الدنيوية، ومعها بات الزمن الجديد «حداثة» والقديم «قدامة».

ومن ناحية ثانية يرى أن هيجل كمفكّر للحداثة بلغ بأفكار «فيشته وشلنغ أجلّ مراتبها وعلى نحو خاص ما يرتبط بتقدّم وعي الحرية في الحياة الإنسانية، فيقسّم التاريخ إلى ثلاثة أقسام: في بدايته، ساد الطغيان التام وخصوصاً في الصين والهند القديمتين، وانقسم البشر إلى طاغية وعبيد، وفي وسطه، كما في بلاد اليونان والرومان، انقسم المجتمع إلى أحرار وعبيد، وأما منتهى التاريخ فهي الأمم الجرمانية التي احتضنت مبدأ «الذاتية» المسيحي، وحضنت به مولد دولة حديثة مرسومة المواصفات.

وإن ركّز هذا التحليل على التاريخ وحده، إلاّ أن الباحث وفي ما يتعلّق بفلسفة التاريخ يرى أن «فيشته» أوّل الفلاسفة الألمان الذي اشترع للفلسفة، وذلك من خلال عمله الفلسفي المكنّى ب «نظرية العلم». بينما سيذهب هيجل وشلنغ بهذه الفكرة أقصى نتائجها المنطقية الممكنة، وبتعبيره، هما من الفلاسفة القلائل الذين أقاموا فلسفاتهم على ضوء مسار الفكر الكوني بأكمله، وذلك من خلال الفصل الواضح ما بين قديم الفلسفة وحديثها، والنظر إلى الفلسفة الحديثة بما هي جماع لا بما هي أشتات، ثمّ الجمع بين المتفلسف ومؤرّخ الفلسفة، وهو الأمر الذي سينتج عنه، بتعبيره، إمكان النظر التاريخي في «مسألة الحداثة» معتبراً أن إنشاء «فلسفة تاريخ» وإقامة «تاريخ فلسفة» شرطان أساسيان للتحديث وإبراز التباين ما بين القديم والحديث.

أما ما يخص المقاربات العربية للفلسفة عموماً ولفلسفة الحداثة على نحو خاص، فإنه استرعى انتباهه ظاهرة لافتة للنظر، وهي أن الباحثين العرب حينما يكتبون عن مفكّر عربي كلاسيكي، كالغزالي أو ابن رشد، فإن كتاباتهم تأتي في غاية الوضوح، بينما حينما يكتبون عن مثقف غربي حداثي شأن هيجل أو هايدغر أو فوكو أو دريدا، فإنه غالباً ما يعتري أفكارهم التشوّش، ويستبد بأفكارهم القلق، والسبب في ذلك برأيه: عاداتنا التي درجنا عليها في «فصل أنظار» المفكر المدروس عن «أصولها» و «منابتها. ومن جهة ثانية تقليد الثقافة الغالبة وتغريب اللغة.

والاعتدال بحسب تعبيره، هو وعي الإنسان بأن الفكر فكره هو، أي إنه «أناه» المفكّرة، غير أن بعض الفلسفات قد ذهبت بمبدأ الذاتية هذا مذهباً قصياً إلى حدّ إضفاء الصفة المطلقة على «الأنا» بل عبادتها، وفي ذلك غرور كبير. أما بالنسبة للحرية المتطرفة، فإن المؤلّف سيتناول أطروحة هيجل حول في إشكالية فكرة الحرية بالنسبة للفكر البشري، فهي فكرة لم تكن قابلة للتحديد ومعرّضة للالتباس، إلاّ أنها أصبحت معيار التفرقة بين القدامة والحداثة، نظراً لأن الحضارات السابقة لم تعرفها ولا خبرتها، وحتى وإن خبروها، كما في مجتمعات الأحرار والعبيد، إلاّ أنهم لم يفقهوها.

ويعزو سبب هذا الالتباس إلى أن الناس في اندفاعهم الكبير إلى الحرية، ما ميزوا بين «الحرية العاقلة» العالمة بما تتطلّبه الضرورة المجتمعية، و «الحرية الذاتية المطلقة» الثائرة على كلّ شيء يقيّدها، فهي بالتالي تتمرّد على كلّ تضييق. تابع محمد الشيخ النقد الهيجلي للحداثة من خلال أربعة مفاهيم: الارتياب، التهكّم، شقاء الوعي، و غياب الإله. ثمّ يناقش في الفصل السابع والأخير القول في «نهاية التاريخ» و «نهاية الفلسفة» فيستعرضهما المؤلّف ويفصّل فيهما وفي المناقشات التي أعقبت وفاة هيجل. كتاب بحثي مهم، لا غنى عنه للباحثين في مجال الفكر بعامة والحداثة على نحو خاص.

مبدأ الذاتية

ينتقد محمد الشيخ الذاتية المتطرّفة و يؤكّد أن هيجل رأى أن مبدأ «الذاتية» يعتبر من أهم سمات الحداثة، وقد سعى إلى مدحه والإعلاء من شأنه في الفكر الحديث حتّى حتى عدّه أصلاً للحداثة ومنشأً لها، ولكنه في الوقت نفسه ميّز بين هذه الصورة من صور الذاتية، وهي الصورة المعتدلة العقلانية، وصورة أخرى مغالية.

المؤلّف في سطور

د. محمد الشيخ، باحث وأكاديمي مغربي أصدر كتباً عدّة عن الحداثة منها: المغاربة والحداثة، ومسألة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر، ورهانات الحداثة، بالإضافة إلى كتابه الجديد.

عزت عمر

الكتاب: فلسفة الحداثة في فكر هيغل

الكاتب: د. محمد الشيخ

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث، بيروت، 2008

الصفحات:496 صفحة

القطع: الكبير

 

رابط المقال :

https://www.albayan.ae/paths/books/2009-03-01-1.410258?ot=ot.AMPPageLayout

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.