سياسات المسلمين عبر القومية: إعادة تخيل الأمة
تمثل طائفة متنوعة من القوى العابرة للمحلية مثل جماعات المهجر، والحركات الاجتماعية العابرة للقومية، إضافة إلى المدن العالمية، وتقنيات المعلومات-تحديا للمخيلة السياسية التقليدية في مجال العلاقات الدولية. وكما يتحرك البشر من دون حاجز أو قيد متجاوزين الأطر المحلية، تتحرك كذلك أفكارهم ونظرياتهم ورؤاهم للعالم.
يتضمن هذا الكتاب تحليلاً للإسلام بوصفه أحد أشكال “النظرية المهاجرة” في سياق تلك التحولات العالمية المعاصرة، كما يعالج مؤلفه بيتر ماندافيل كيفية تجلي -“العولمة” – كتجربة معاشة- من خلال مناقشة صور الجدل الدائر حول معنى الهوية الإسلامية، والمجتمع السياسي، وظهور ما يشبه “الإسلام النقدي”. كما يواصل الكتاب طرح المزيد من المعالجات الأكثر تطورا للسياسات اللامركزية في أدبيات الأنثروبولوجيا، والدراسات الثقافية، وما بعد الاستعمارية “الكولونيالية”. ويقدم ماندافيل مفهوما غير ماهوي (غير تسطيحي) للإسلام، كما يناقش الظروف التاريخية التي نشأت في ظلها الخطابات الإسلامية حول الأمة، ثم يقدم ثلاثة محاور نظرية رئيسة: وهي النظرية المهاجرة، والهجنة (hybridity)، والمهجر (الشتات أو diaspora ) – كأطر لفهم السياسات العابرة للمحلية.
وقد جاء كتاب: “سياسات المسلمين عبر القومية: إعادة تخيل الأمة” الذي صدر حديثًا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت 2018 للباحث بيتر ماندافيل في 367 من القطع المتوسط بمقدمة وستة فصول.
ويوضح المؤلف في أول الكتاب أن دافعه لتأليفه كان اعتباران مركزيان أولهما: بيان طرق أفضل للتفكير في السياسة والهوية السياسية في ظل الظروف الحالية التي يمر بها العالم من تدفقات عالمية غير مسبوقة للشعوب وسطوع نجم المدن العالمية وبزوغ عالم التقنيات الإعلامية العولمية، وأخيرًا ترسخ ظاهرة الفواعل السياسية العابرة للدول. وثانيهما طرح قراءة بديلة للإسلام “السياسي” مع التركيز على السياسة التي تشكل الحياة اليومية للغالبية العظمى من المسلمين في العالم، لا على الحركات المسلحة وصراعاتها ضد “الغرب” و/ أو حكومات الدول المختلفة.
يبدأ الفصل الأول المعنون بـ: “ما وراء التخصصات الانضباطية: العلاقات الدولية والسياسة العابرة للمحلية” بتقديم نقد للتصورات السائدة لماهية “السياسي” في العلاقات الدولية، والطرح بأن السلطة السياسية النابعة من نظام الدولة تتعرض للتهديد بسبب مجموعة التحولات الاجتماعية/ الثقافية العالمية التي تعمل على اقتلاع الهويات السياسية من السياقات القومية، كما تعمل أيضًا على تمديد العلاقات الاجتماعية عبر الزمان والمكان. وبعد مراجعة الإسهامات التي قدمتها المقاربات النقدية للنظرية الدولية لتفسير هذه التغييرات، يعتقد المؤلف أن علم العلاقات الدولية سيفيد في استكمال نواقص خطابه إذا ما تفاعل مع النقاشات والمستجدات التي تهتم بها الحقول المعرفية الأخرى، مثل دراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات الثقافية، خاصة الأنثروبولوجيا. حيث إن هذه الحقول الأخرى –بما فيها من مفاهيم شديدة الثراء تربط بين الثقافة والهوية السياسية- قادرة على تقديم تفسيرات متطورة، تبين كيف انبثقت اصطلاحات ما بعد القومية ومابعد الإقليمية وعبور المحلية من رحم العولمة.
وفي الفصل الثاني المعنون بـ: “قبل الغرب وفي الغرب وبعد الغرب: “الإسلام” والمسلمون والأمة” يطرح المؤلف تعريفًا للإسلام لا يقوم على فرضيات سطحية، وإنما يركز على فكرة الذاتية الإسلامية بدلاً من التركيز على كنه الإسلام، باعتباره ثقافة معينة. وهذا أمر حيوي –في نظري- لإدراك الطرق المتعددة للتعبير عن الهوية الإسلامية الموجودة في الفضاء عبر المحلي. ثم ينتقل المؤلف بعد ذلك لدراسة وضع الخطاب الإسلامي المعاصر في سياق المناقشات الدائرة حول الحداثة وما بعد الحداثة والغرب؛ مؤكدًا أن نفس التركيبات المتغيرة للهيمنة التي ساعدت الأصوات الإسلامية في التعبير عن رؤى بديلة للحداثة تفتح الطريق أيضًا لإعادة التفاوض حول تصور الإسلام ذاته وإعادة بلورته. ويدرس المؤلف مفهوم الأمة من خلال سياقين تاريخيين هما تاريخ المجتمع المسلم الأول المؤسس لدولة الإسلام، وتصورات الإصلاحيين الإسلاميين المناهضين للاستعمار في القرن التاسع عشر.
وفي الفصل الثالث المعنون بـ: “أنماط عبر المحلية: النظرية المرتحلة، الهجنة، المهجر” يعود المؤلف إلى مفهوم (حالات الانتقال) العابرة للمحلية، محددًا ثلاثة محاور نظرية يراها عناصر وسيطة بين الثقافة والسياسة في الفضاء عبر المحلي؛ حيث يفيدنا مفهوم النظرية المهاجرة في فهم ما يحدث للشعوب والثقافات والأفكار التي تنتقل عبر البيئات الاجتماعية/ السياسية المختلفة. كما تأتي نظرية التهجين –فيما يرى المؤلف- لطرح لغة مفاهيمية يمكن من خلالها تحليل التمازجات الثقافية المبتكرة التي تنشأ عن المواجهات عبر المحلية لبيئة معينة؛ سواء مواجهات داخلية مع عناصر من البيئة نفسها، أو بينية مع تقاليد بيئات أخرى. والمح-ور الثالث هو نظرية المهجر التي تحتفي بالطبيعة “اللامركزية” حرة الحركة للهويات المهاجرة تتبنى موقفًا ناقدًا يصعب بالنسبة إلى الهويات المسيسة والمكروهة (الإسلامية مثلاً) أن تتبناه.
ويسعى الفصل الرابع المعنون بـ: “الإسلام الـمُعاش: السياسة والمجتمع عند مسلمي المهجر” إلى تقديم دراسة حالة تفصيلية لمسلمي المهجر في الغرب، مع التركيز على كيفية ارتحال الإسلام وأيضًا دراسة النقاشات حول مسألة السلطة، وقضية الأصالة التي تنشأ عن عملية الانتقال من الفضاء المحلي الداخلي إلى فضاء أخر مغاير. وقد صنف المؤلف المادة التجريبية للفصل وفقًا لثلاثة محاور: المناقشات مع “الآخر” المسلم؛ وإعادة النظر في فهم السياسة والمجتمع والنور (الجندر) في الإطار عبر المحلي؛ وأخيرًا شبكات المهجر عبر القومية؛ حيث يطرح إمكانية النظر إلى المسلمين في المهجر على أنهم يتمتعون بشكل من أشكال الهوية البينية التي لا يمكن أن تشارك بصورة كاملة في سياسة مجتمع الأغلبية غير المسلم، ولا في سياسة بلدهم الأم.
ويناقش الفصل الخامس المعنون بـ: “المجالات العامة العبرة للقومية: تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات في العالم المسلم” طرق استخدام المسلمين للإعلام وتكنولوجيا المعلومات؛ حيث يستعرض المؤلف فيه أولا كيف ساعد ظهور تكنولوجيا الطباعة في القرن التاسع عشر في تقنين احتكار العلماء التقليديين للمعرفة الدينية، ثم يبين كيف تشهد هذه العملية مزيدًا من التجذير في العصر الحاضر؛ من خلال الانتشار الواسع لتكنولوجيا الانترنت في مجتمع المسلمين في المهجر؛ حيث تتيح هذه الموارد والملتقيات للمسلمين وسائل جديدة للتواصل والتفاعل عبر المسافات (بمعنى إعادة تخيل الأمة) كما تفتح مجالات عامة جديدة يمكن أن تظهر فيها أشكال جديدة للسلطة، وللإسلام الأصيل. وبعد ذلك يستعرض المؤلف في عجالة كيفية إعادة تشكيل دور الإنترنت محليًا في دول الخليج العربي؛ كمثال لما يحدث عندما تتفاعل هذه المجالات العامة مع سياقات سوسيوثقافية مختلفة.
ويجمع الفصل السادس والأخير والمعنون بـ: “إعادة تخيل الأمة” بين موضوعي الكتاب الرئيسين؛ الإسلام المهاجر والسياسة العابرة للمحلية- بغية إلقاء الضوء بصورة أكثر وضوحًا على العلاقة بينهما؛ حيث يرى المؤلف أن الإسلام السياسي –الذي تأثر بدرجة كبيرة بحالة الانتقال عبر المحلية، كما أنه يُوصف في أغلب الأحيان بأنه صورة رجعية لـ (لا) عقلانية ما قبل القرون الوسطى – قد صار بالفعل كيانًا أكثر تقعيدًا في نظر علم اجتماع المعرفة؛ فالأطروحات الجديدة فيما يمكن أن نسميه “الإسلام النقدي” تظهر من خلال أعادة تقييم وتفسير المصادر النصية التقليدية؛ ومن ثم فالعودة إلى التراث الأصلي لا تعد ارتداداً إلى “الإصولية”، وإنما هي –فيحالة صور الخطاب الإسلامية الجديدة هذه- محاولة لإعادة قراءة الجوهر الأخلاقي للنصوص بشكل نقدي في ضوء السياقات المعاصرة مباشرة.
ويختم المؤلف الكتاب بتسليط الضوء على الآليات الثلاث الرئيسة التي تُغير من خلالها حالة الانتقال عبر المحلية حدود المجتمع السياسي المسلم وهي اقتلاع المسلمين من بيئات قومية معينة وإعادة توطينهم كأقليات مما يجعل هوياتهم السياسية لا تتشكل فقط وفقًا للمناطق التي يتفاعلون معها، بل وتتحدد أيضًا في إطار الرؤية الأصلية للإسلام الأول.
ثانيًا: المواجهة مع “الآخر المسلم” في ظل الحالة عبر المحلية التي تضفي نسبية على شعور المسلمين بالهوية، وتجعلهم يعيدون تقييمهم لحدود الاحتواء/ الإقصاء التي تحدد من يعد مسلمًا “أصيلاً” وما الذي يُعد إسلاما أصيلاً.
ثالثا: النقاشات حول المقتضيات السياسية للإسلام عبر المحلي – وأيضًا حول من يمكنه بصورة شرعية وضع هذه الأجندة التي تسهم في خلق مجالات عامة إسلامية جديدة يجري في ظلها تمكين أصوات لفئات كانت محرومة في السابق من صياغة تفسيرات بديلة للأصالة الإسلامية.