أسامة غاوجيمقدّمة : الكاتب والكتاب : الديمقراطية الإسلامية والهيمنة ؟
نوح فيلدمان أستاذ القانون الدولي في كلية الحقوق بجامعة هارفرد ، وهو يحمل الدكتوراه في الفكر الإسلامي من جامعة أكسفورد ، يعدّ أحد أكثر الكتاب الأمريكيين إثارة للجدل ، فهو مثقف عمومي يشارك في النقاشات القانونية حول قضايا الدين والسياسة في المجالين العام، والخاص ، ويُعنى في معظم دراساته وكتبه بدراسة الظاهرة الإسلامية ، وقد عُرف الوجه الثقافي لفيلدمان في العالم العربي بعد ترجمة كتابه ” ما بعد الجهاد : أمريكا والنضال من أجل ديمقراطية إسلامية ” الذي صدر عن دار المريخ بترجمة عبد الرحمن الشيخ ، وقد بدا فيلدمان في كتابه كأحد الداعين للولايات المتحدة لإعادة النظر في علاقتها بالحركات الإسلامية السياسية ، مؤكّداً على أن الحركات الإسلامية هي الرافع الحقيقي للديمقراطية في العالم الإسلامي ، وأن من غير الممكن تأسيس ديمقراطية في العالم العربي بتجاهل التراث القانوني الإسلامي والروح الإسلامية الصاعدة لدى الشعوب ، هذا الخطاب الذي يذكرنا بخطاب جون اسبوزيتو ، والذي يرى البعض أن فيلدمان هو امتداد له. اسبوزيتو الذي تعرض لهجوم عنيف بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والذي رأى فيها البعض تأكيداً لأطروحات المدرسة الثقافوية التي تصوّر الإسلام كدين للعنف والإرهاب. وقد ارتكز خطاب اسبوزيتو على تنوع معاني الديمقراطية وأحقّية كل ثقافة بإنشاء مفهومها الخاص عن الديمقراطية وبالتالي إمكانية تكوين ديمقراطية إسلامية خصوصاً وأن مفاهيم الشورى والأجماع والإجتهاد تشكّل أساساً ثقافياً لتوافق أصيل بين الإسلام والديمقراطية والتعددية ، وهو ما جعل خطاب اسبوزيتو ناقماً على احتكار الغرب لمفهوم الديمقراطية الذي اقترن في صورته الغربية بمجموعة من القيم كالليبرالية والعلمانية والرأسمالية والسوق المفتوح ، حتى أصبحت هذه القيم حزمة واحدة لا تقبل التجزئة فإما أن تكون الديمقراطية على صورتها الغربية أو لا تكون.
يمثّل خطاب فيلدمان خطاباً مناهضاً للأطروحة الثقافوية خصوصاً لدى كلّ من برنارد لويس وصامويل هاتنجتون، التي ترى أن التخلف في العالم الإسلام مردّه إلى تشوّه بنيوي وثقافي أصيل وترى بأن الإسلام دين مطبوع على العنف والاستبداد والشهوانية ، وترى بأن الصراع مع العالم الإسلامي (ذي الحدود الدموية كما يصفة هاتنجتون ) صراعٌ لا يمكن ان يتوقف وأن فترات السلم والإستقرار ما هي إلا استثناء مؤقت ، وإذ يرى فيلدمان بأن على الولايات المتحدة أن تتحالف مع الاسلاميين الديمقراطيين منتقداً دعمها للأنظمة الاستبدادية السلطوية في العالم العربي معتبراً أن هذا خيانة لمبادئ الولايات المتحدة الأمريكية، فإنّه يجرّ على نفسه هجوماً عنيفاً من سدنة الأطروحة الثقافوية السائدة في الولايات المتحدة كما في هجوم المفكر الأمريكي الصهيوني ليون ويسلتير، والكاتب والمستشرق صيهوني النزعة مارتن كرامر التلميذ الإيدولوجي لبرنارد لويس ، حيث يرى كرامر أن الإسلاميين “المتطرفين” هم من يحوزون على إعجاب الرأي العام الإسلامي بهم ، وان عدم تنديد من يصفهم بـ”الإسلاميين المعتدلين” بعمليات “العنف والإرهاب” التي يمارسها “المتشددون” يعني اتفاقهم الضمني معها .
أما الوجه الآخر الذي عُرف به نوح فيلدمان في العالم العربي فهو فيلدمان اليهودي ،المستشرق الجديد الذي يتقن العربية منذ أن بلغ الخامسة عشرة من عمره، والقادم مع الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق ، ففيلدمان عمل مستشاراً لحاكم العراق بول بريمر وهو من صاغ الدستور الأفغاني المعمول به حالياً، وهو من صاغ مسوّدة الدستور العراقي الانتقالي الذي تم الاستفتاء عليها واقرارها ، وهو ما دعا إدوارد سعيد للقول بأن إناطة مهمة كتابة الدستور العراقي لشاب تنقصه الخبرة (فيلدمان من مواليد 1970) هي إهانة لآلاف القانونيين العرب .
هذان الوجهان/ الأوجه : الثقافة والامبريالية ، المعرفة والأيدولوجيا ، الاستشراق والهيمنة ، هي أوجه ضرورية لفهم أطروحة فيلدمان حول “سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها ” ، وإذا كانت هذه الأطروحة وهذا الكتاب تؤول، بعد تحليل تاريخي ودستوري معمّق لانهيار الدولة العثمانية وصعود الدولة القومية العربية، إلى خلاصة أن الإسلاميين الديمقراطيين هم المستقبل الذي ستختاره الشعوب المسلمة إذا ما أتيحت لهم الفرصة للانتخاب الحر ، فإن السؤال الذي يبقى عالقاً : ألا تخفي هذه الدعوة إلى التفاهم مع الاسلاميين واتاحة الفرصة لهم للممارسة السلطة، شرطاً مبطّناً باستجابتهم وحفاظهم على المصالح الأمريكية المتمثلة في النفط وأمن دولة “اسرائيل ” ؟ أليس علينا أن نقرأ ما قاله فيلدمان في كتابه ما بعد الجهاد بأنه “ومع مرور الوقت ستجعل الديمقراطية في العالم العربي السلام مع اسرائيل أكثر ديمومة ” ، أليس علينا أن نقرأه كموجّه لسياسات المحافظين الجدد لإعادة بناء سياسة الاستقرار على قواعد من الديمقراطية الموالية للغرب ؟ وهل يمكن للديمقراطية أن تأتي قسراً على ظهر الدبابة الأمريكية الغازية ؟
الإطار العام : تاريخ الحياة الدستورية الإسلامية ومستقبلها
صدر كتاب ” سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها ” بترجمته العربية للطاهر بوساحية في مطلع العام ، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بعد أن صدر بطبعته الإنجليزية في عام 2008 ،بمقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة، وصدرت نُسخته العربية مشفوعة بمقدّمة ثانية كُتبت في عام 2012، تتضمن محاولة للتأكيد على استمرار فعالية النموذج الذي يطرحه الكتاب لتفسير تحولات الربيع العربي ، فالكاتب يؤسس لأطروحة مفادها إن مستقبل الإسلام السياسي يتجه نحو تركيبة من الديمقراطية الدستورية يُعبّر عنها الإسلاميون بـ”الشريعة ” والتي يراها فيلدمان دعوة لإعادة سيادة القانون. ويستمدّ فيلدمان ملامح أطروحته من صعود الإسلاميين المفاجئ من خلال العملية الديمقراطية في الجزائر 1991 ومن خلال كتابات الإسلاميين البارزين كالغنوشي والقرضاوي، ومن ثم صعود الإسلاميين في تركيا ولاحقاً في أفغانستان والعراق . الكاتب يرى في أحداث الربيع العربي استمراراً يؤكد أطروحته ، أما ما يظهر من صعود للسلفيات الجهادية والنزعات الراديكالية فإنّ فيلدمان يراه مؤقتاً ومقترناً بفشل المسار الديمقراطي وظهور بيئات من العنف والقمع المفرط .
ترتكز الدراسة التي نحن بصددها على فهم التاريخ الدستوري الإسلامي ، حيث يرى فيلدمان في مقدّمة الكتاب أن البنية الدستورية الإسلامية قامت على الحكم بالشرع وفق تفسير الفقهاء ، الذين كانوا هم المعبّر عن الشريعة والمفسرين للنصوص الإلهية ، والبنية الدستورية الإسلامية تقوم على هذا التوازن بين سلطة الحاكم التنفيذية وسلطة الفقهاء التشريعية والرقابية ، فشرعية الحاكم تُستمدّ من إقامته للشرع . كان سقوط الدولة العثمانية مرتبطاً في رأي فيلدمان بعهد “التنظيمات” والإصلاحات العثمانية التي موضعت العلماء كجزء من النظام القانوني للدولة وليس كسلطة مستقلة عنها ، وقننت الشريعة في مواد مكتوبة قصرت دور العلماء على تطبيقها وحوّلتهم إلى موظفين صغار في جهاز الدولة ، الأمر الذي مهد لإزاحة طبقة العلماء وبروز عصر الإستبداد المطلق .
لم يكن نموذج الدولة الوطنية ، أو دولة ما بعد الإستقلال أفضل حالاً ، ولا أقلّ استبداداً ، بل غابت العدالة ، وأُعيقت النهضة الوليدة مراراً ، الأمر الذي يفسر بروز الدعوات الإسلامية لإعادة تطبيق الشريعة ، ويرى فيلدمان في الشريعة مفردة تعبّر عن ثلاثة مدلولات : الأولى، هي حكم القانون وسيادته، والثانية ، هي استعادة مجد الدولة الإسلامية القديمة باعتبار الشريعة جوهرها الأصيل ، والثالث ، هو المطالبة بالعدالة بأركانها الثلاثة : الإجتماعية والسياسية والقانونية، وإذاً فلا يمكن فهم المطالبة بالشريعة باعتبارها أمر تاريخياً وحنيناً ماضوياً، وهذا النقد الأوّل للمنهج الاستشراقي السائد في التعامل مع الظاهرة القانونية الإسلامية ، إنما الشريعة هي الأصل والجوهر للبنية الدستورية الإسلامية ، وهي مخزون حيّ لا بد من التفكير فيه لإعادة بناء المستقبل ، والتمييز المصطنع بين التراثي والمستقبل ، هو تمييز خلقته الحداثة والاستعمار، وساهم هذا التمييز المصطنع في رأي فيلدمان في عقبة رئيسية في وجه إضفاء الطابع الديمقراطي على الشريعة ألا وهي التوتّر بين القانون الوضعي والشرعي ، وهو توتّر لم يكن يشكّل قيمة مركزية في التراث القانوني الإسلامي . أما النقد الثاني الذي يوجهه فيلدمان للمقولات الاستشراقية الكلاسيكية فهو تأكيده على أن الدولة الإسلامية التاريخية كانت دولة قانونية ، تتأسس على دستور عرفي يتطوّر على الدوام ، ولم تكن دولة أوتوقراطية تسيّرها الأهواء والمصالح الفردية كما يُصوّرها العقل الاستشراقي عموماً وكما تظهر في كتابات مونتسكيو أو ماكس فيبر على وجه الخصوص ، بل إنّ مقارنة بين علاقة السلطة بالقانون في الدولة الإسلامية التاريخية بسابقتها الرومانية يُظهر بوضوح أن قانون “جوستنيان” الكبير الذي كان ينص على أن ” الأمير ليس ملزماً بالقانون” ليس له رديف أو مقابل في الحياة القانونية الإسلامية ، فالحاكم يستمدّ شرعيته من التزامه بالشرع/ القانون .
صعود الدولة الإسلامية
في الفصل الأوّل من الكتاب المعنون بـ” أين كان مكمن الصواب ؟” يحاول فيلدمان أن يرسم صورة عامة للحياة الدستورية الإسلامية من خلال رسم العلاقة بين القانون والسلطة من جهة ، وبين ممثلي القانون ، أي العلماء ، وممثلي السلطة ، أي الحكام ، من جهة أخرى .
وحيث إن الشريعة في دلالتها العميقة هي “بنية جامعة مانعة تقوم بالضبط بتنظيم العلاقات الإجتماعية وتسهّل العدالة الإقتصادية” فإن صعود الدعوات الإسلامية لإعادة بناء الدولة الإسلامية ليست مستغربة ، بعد سقوط الامبرطورية العثمانية وفشل الدولة القومية العربية والإشتراكية الحديثة ، بل وتحوّل الدولة العربية إلى دولة سلطوية واستبدادية وظالمة. إن الإقتران بين الشريعة والعدالة في المخيال الإسلامي العام ، اقترانٌ وثيق ،فالشريعة كانت جوهر الحياة الإسلامية ، وهي مرتبطة في الوعي الإسلامي بكونها العنصر الجوهري الذي صنع مجد الدولة الإسلامية القديمة.
إذا كانت الحياة الدستورية الإسلامية قد اعتمدت على التوازن بين العلماء والحكام ، فإن السؤال المركزي الذي يدور حوله الفصل الأوّل هو : من أين يستمدّ العلماء سلطتهم ؟ وإذا كانت الصورة الإستشراقية المعتادة تصوّر الشريعة كدستور معطّل يتحكم به الحكام كيفما شاؤوا فإنّ التأمّل العميق في طبيعة البنية القانونية للدولة الإسلامية يكشف عن طبائع هذه القوة الناعمة التي كانت بيد العلماء والتي مكنتهم من الحدّ من سلطة الحاكم وتقييدها بسلطة الشرع الذي كان تفسيره منوطاً بهم ، هذه “السلطة المستمدة من الحقائق السياسية للخلاقة في العالم الإسلامي الوسيط “.
والجواب يكمن في ثلاثة عناصررئيسة يندرج أسفلها مجموعة من العناصر الفرعية التي منحت للعلماء هذه السلطة :
1- إن نخبة العلماء كانت مستقلة عن الدولة ، ولم تكن تمتلك طموحاً دنيوياً لتكون منافسة للدولة ، وقد أمّنت مؤسسة الوقف استقلالاً مالياً للعلماء ، وحيث إن الحاكم كان مجبراً على اختيار القضاة من طبقة العلماء ، فإن حقّه في عزل القضاة لم يكن يمكنّه من انتهاك الشريعة ، فهذه النخبة التي حددت نفسها بنفسها ، كانت عبر سيرورتها الخاصة قد طوّرت مذاهب فقهية مستقرة قابلة للتنبّؤ والاستقرار ، الأمر الذي شكّل المهاد الرئيسي للنظام القانوني والإقتصادي للدولة الإسلامية .
2- حدّت سلطة العلماء من قدرة الدولة على التغول في الملكية الخاصة، التي تمتلك موقعاً مركزياً في النظام القانوني الإسلامي، الامر الذي جعل الدولة تضطّر إلى فرض الضرائب على المواطنين، وإن كانت هذه الإجراءات الإدارية في يد الحاكم فإنها كانت تحظى بالضرورة بموافقة العلماء، وقبولهم بالتنظيمات الإدارية التي يسنّها الحاكم كان مشروطاً ببقائها داخل الإطار الذي تسمح به الشريعة ، وقد ساهم النظام الضريبي في تعزيز موقع مواطني الدولة وإجبار الحكام على الاستجابة لانشغالات الناس ومطالبهم .
3- الطبيعة غير المؤكدة للخلافة ، والشك بشأن تولي الخليفة لمنصبه سمح بموقع مميز لسلطة العلماء ، فرغم سيادة النظام الوراثي في الدولة الإسلامية، فإنّ هذا النظام كان يحيطه الشك ، فالبنية القانونية الإسلامية كانت تشترط في الخليفة حصوله على مبايعة ورضا أهل الحل والعقد (العلماء ) ، وكانت تُتيح لهم بالقوّة (دون سلطة فعلية ) إمكانية عزل الحاكم الذي يخالف شروط العدالة وينتهك الشريعة . وإذا كان نظام الوراثة في انتقال السلطة قد استقر في الدول الإسلامية المتعاقبة بعد فترة الخلافة الراشدة فإنه كان يتم بتسوية ضمنية مع العلماء الذين كانوا يشترطون الحفاظ على مكانتهم كسلطة مستقلة مراقبة للسلطة التنفيذية ، ويشترطون استجابة الحاكم لواجبات الخلافة المتمثلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد كانت الشريعة تمثّل مصدر شرعية الحاكم ومصدر شعبيته وولاء الناس له ، وهو ما يظهر في حالات الجهاد ، وموقف ابن تيمية في الدعوة إلى الجهاد ضدّ المغول (رغم اعلانهم الإسمي للإسلام ) إحدى المواقف التي تبيّن حاجة السلطة الدائمة للعلماء لتأييد مواقفها ودعمها بين الناس .
وفي هذا الإطار يقرأ فيلدمان نشأة فقه الأحكام السلطانية مع الماوردي ، ثم مع الغزالي ، لا باعتباره فقه ضرورة ، إنما هو فقه نشأ في لحظة تحوّل تاريخي في الدولة الإسلامية تمثّل في استملاك البويهيين للسلطة التنفيذية وبقاء الخلافة إسماً دون مسمّى، ويقرأ فيلدمان نظرية الماوردي باعتبارها إصراراً طموحاً على الحفاظ على سلطة العلماء ، ولو كان ذلك على حساب التخلي عن السلطة التنفيذية للخليفة . ويرى فيلدمان أن “الأساس الفكري الذي أقامه الماوردي حافظ على التوازن بين السلطات في الدستور الإسلامي الكلاسيكي على مدى سبعمائة سنة أخرى “.
الأفول : اختلال التوازن الدستوري
في الفصل الثاني ” الأفول والسقوط ” يُناقش فيلدمان تحوّلين رئيسين في البنية الدستورية الإسلامية ، حدثا في الحقبة الأخيرة من حياة الامبرطورية العثمانية فيما عُرف بعصر “التنظيمات “. وإذا كانت النخبة الثقافية العثمانية التي درس بعض رجالها في أوروبا، قد رأوا أن سبب تفوق أوروبا وتسارع وتيرة تقدّمها يعود إلى إدارة داخلية متفوقة وفاعلة ، فإن الضعف الخارجي للسلطنة العثمانية وتفكك أطرافها وزيادة ديونها الخارجية قد دفع بهذه النخبة للدعوة إلى إصلاحات قانونية وإدارية ودستورية داخل الدولة العثمانية ، شملت إصلاحات عسكرية وتغييرات في آلية فرض الضرائب وشملت إصلاحات قانونية، هي ما يهمنا في هذا السياق .
يُقسّم فيلدمان هذه الإصلاحات إلى إصلاحات قانونية ، تتمثل في تقنين الشريعة في قواعد مكتوبة ، وإلى إصلاحات دستورية تتمثل في إنشاء هيئات مؤسسية وإدماجها في النظام الدستوري القائم ، ويرى فيلدمان أن هذه التحوّلات قد أزاحت طبقة “العلماء ” دون أن تفسح المجال لبروز طبقة أخرى تمتلك سلطة مكافئة ومراقبة للسلطة التنفيذية .
ما بين عامي 1869 -1876 ظهرت “المجلّة ” ، التي قامت بتقنين الشريعة وفق قواعد قانونية أشبه ما تكون بالقوانين الأوروبية ، وإذا كان القاضي في السابق يحوز على موقع حيوي في المنظومة القانونية باعتباره وسيطاً فاعلاً بين مجموعة واسعة من القواعد الفقهية وخصوصية الحالة التي يقضي لها، فإنّ تحوّل الشريعة إلى مجموعة من القواعد الدقيقة ، تجعل القاضي أشبه ما يكون بقناة وأداة ضرورية للسطلة التشريعية لتطبيق قواعدها ، ورغم أن المجلة في المرحلة الأولى لم تُطرح كمدوّنة قانونية إلزامية وشاملة ، بل كمجموعة من القواعد المرشدة للقاضي ، فإن التطوّر اللاحق باستبدال القضاة العلماء بطبقة من الموظفين القانونيين المدرّبين كان إزاحة لطبقة العلماء عن الحياة القانونية .
أما التحوّل الثاني فقد بلغ ذروته مع صدور دستور 1876، والذي استبدل بـ”المجلس الأعلى للتنظيمات القضائية” هيئتتين تشريعيتين منتخبتين : مجلس النواب والشيوخ ، واقتصر دور العلماء على القضايا الشرعية التي تتعلق بالمحاكم الشرعية ، وإذا كان هذا التحوّل نحو الملكية الدستورية يهدف إلى إحلال طبقة تشريعية جديدة محلّ طبقة العلماء ، فإنّ قرار السلطان عبد الحميد عام 1878 بتعليق عمل الهيئة التشريعية سمح بظهور سلطة تنفيذية لا رادع لها ، فإزاحة طبقة العلماء وتحوّل الشريعة إلى جزء من النظام الدستوري بعد أن كانت مانحة الشرعية للنظام العام بأسره ، ومنع ظهور أي طبقة مكافئة لها ، خلق فراغاً تشريعياً ورقابياً سمح بظهور سلطة مستبدة ومتعسفة . ولن يكون من المبالغة –والنص لفيلدمان – القول إن قدوم الدستور المكتوب في العالم المسلم كان علامة على بداية نهاية الدولة الإسلامية .
يمكن أن نُجمل التحوّلات التي جرت في أواخر الحقبة العثمانية بالتالي :
1- تحوّلت الشريعة من مصدر متعالٍ وإلهي للشرع يفسره العلماء حصراً ، إلى مجموعة من القواعد تحددها الدولة وتطبّقها، وتقلصت سلطة الشريعة إلى حدود قانون الأسرة .
2- تحوّل العلماء من كونهم طبقة مستقلة مهمتها حماية الشرع إلى موظفين لدى الدولة .
3- ونتيجة السببين السابقين لم يعد العلماء ضروريين لإضفاء الشرعية على الحكم القائم .
ويرى فيلدمان أن هذه السيرورة تكررت في مصر إبان حكم محمد علي ، وفي جنوب آسيا إبان سلطة الراجا البريطاني ، وإذ يرى فيلدمان أن الاستعمار عزز إمكانية بروز الأنظمة السلطوية ، فإنّه لم يكن المتسبب في ذلك ، “فأفول طبقة العلماء لم يترك وراءه قوة مؤسساتية قادرة على أن تكون بديلا … ولم يعد ثمة حاجز لنمو سلطة تنفيذية لا تخضع للرقابة “.
يخصص فيلدمان عدة صفحات لمناقشة الاستثناء السعودي، إذ إن التحالف المؤسس للدولة السعودية الأولى بين محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والذي استمر كتحالف دائم بين آل سعود وآل الشيخ ، كان يمثل استثناء عن مرحلة الإنهيار الدستوري التي أصابت العالم الإسلامي في القرون الأخيرة ، فاستقلال طبقة العلماء باعتبارها مصدر الشرعية للقرارات السياسية، والمفسرة للشرع، ورفضها لتقنين الشريعة في دستور مكتوب جعل منها استمراراً لموقع العلماء من السلطة التنفيذية في التراث الدستوري الإسلامي الوسيط. إلا إن اكتشاف النفط ، واستملاك الدولة السعودية لعوائده قد أضرّ باستقلالية طبقة العلماء ، وإن لم يتمكن من إزاحتها ، ويكمن الاختلاف الرئيسي بين البنية الدستورية الإسلامية الكلاسيكية ، والبنية الدستورية السعودية الحديثة، ليس في العلاقة الثنائية بين العلماء والحكام ، إنما في العلاقة الثلاثية بين الحكام والعلماء والمحكومين ، فعوائد النفط خلقت دولة ريعية لا تحتاج لفرض الضرائب على المحكومين، وليست مضطرة بالتالي لاستمداد مشروعيتها السياسية منهم عبر آليات من التفاهم والاستجابة لمطالبهم، كما أنّ هذا الاختلال في العلاقة الثلاثية قد أضعف من دور مؤسسة العلماء كمؤسسة وسيطة تدفع بالمحكومين لتأييد الحكام أو تؤلّبهم عليهم . هذه البنية التي ظهرت بعد اكتشاف النفط جعلت الحكام دون خشية من بروز معارضين جدييّن أو حدوث ثورات وانقلابات عليهم إلا في حال أصبحت الحكومة قمعية بشكل مفرط أو في حال بروز أيدولوجيا خارجية تطعن في شرعية الحكم .
صعود الإسلاميين ، توافق الشريعة والديمقراطية :
في الفصل الثالث من الكتاب “نهوض الدولة الإسلامية الجديدة ” يُناقش الكتاب صعود الأيدولوجيا الإسلامية الحديثة ، وموقعها من السؤال الدستوري وتوازن السلطات ، ويقع سؤال موقع طبقة “العلماء ” في جوهر النقاش ، فالأيدولوجيا الإسلامية قامت بالدعوة إلى الشريعة بما هي عدالة، وهي المفردة التي تتضمنها أسماء عدة احزاب سياسية إسلامية ، إلا إن طبيعة الأيدولوجيا الداعية إلى إسلام نقي وصاف ، وإلى مساواة مطلقة كانت تتعارض بنيوياً مع وجود طبقة فريدة ومتميّزة عن المجتمع، هي طبقة العلماء ، وقد كان لتحوّل الإسلام إلى مشروع سياسي واجتماعي على يد الأيدولوجيا الإسلامية أثره كذلك على غياب طبقة العلماء عن مشروع الإسلام السياسي، فالعلوم الشرعية لا توفّر الأرضية الكافية لبناء هذا المشروع السياسي والإجتماعي، وهنا برز الإسلام في كتابات الإسلاميين باعتباره مجموعة من المُثل والقيم العليا التي يسمّيها سيد قطب “روح الإسلام ” ، في محاولة للالتفاف على منظومة التقليد الشرعي والقطع مع التراث الفقهي للعودة إلى النص الأصلي “القرآن والحديث ” ، وكانت النتيجة أن غدت الدعوة إلى الشريعة : شريعة بلا علماء .
إذاً فقد “قبل الإسلاميون التوافق بين الإسلام والديمقراطية من خلال الدعوة إلى دستور يعترف بحاكمية الله ويضع الشريعة مصدراً للقانون ” و”النتيجة هي تغيّر جوهري في البنية الفكرية التي يقوم عليها الشرع الإسلامي وهي إضفاء الطابع الديمقراطي على الشريعة ” ، وقد بدا في برامج الإسلام السياسي أن الهيئة التشريعية البرلمانية ستحل محلّ طبقة العلماء الآخذة في الأفول والتي سينحصر دورها في عملية “المراجعة القضائية الإسلامية ” وفي قضايا محدودة ومخصوصة . وهنا يتسائل فيلدمان عن إمكانية تحقق هذا المشروع ونتائجه البعيدة ، فهل التخلي عن الموقع المركزي للعلماء هو تطوّر صحي في النظرية الدستوري الإسلامية ؟ ام أنه ينبئ بانهيار كارثي ؟ وهل يمكن فصل الروح (الشريعة ) عن جسمها (العلماء ) ، وهو السؤال الذي يتركه فيلدمان مفتوحاً ؟
يخصص فيلدمان صفحات عدة لمناقشة الخيار الإيراني الذي انقلب فيه الدور التاريخي للعلماء، فبعد أن كانوا كفة موازية للسلطة التنفيذية تحوّلوا إلى رأس السلطة ، وهو ما أدى إلى بروز سلطة تنفيذية بيد العلماء بلا رادع لم تنجُ من التعسف في استعمال السلطة ، وهو ما تكرر – في رأي فيلدمان – في نموذج طالبان .
ويكرر فيلدمان دعوته في خاتمة الكتاب إلى التحالف مع الديمقراطية الإسلامية الصاعدة مؤكداً أن وقوف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية في صفّ الأنظمة الاستبدادية ، كما في حدث في الجزائر ، وفي فلسطين لاحقاً ، يرسل رسالة مفادها ان الدول الغربية لا تحترم سيادة القانون ولا تبحث سوى عن مصالحها في المنطقة الإسلامية والعربية.
*انظر العدد الأوّل من مجلة المنتدى الفصلية الصادرة عن منتدى العلاقات العربية والدولية Forum for Arab & International Relations