خارج السرب: بحثٌ في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية

في كتابه “خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية” الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت، يشخص الدكتور جدعان على الفور طبيعة التناقض الذي ينطوي عليه هذا الوصف. لأن الرفض ينفي عن صاحبته صفة “مسلمة”. وبذلك، يكون هذا التصنيف غير دقيق في حالة إرشاد منجي تحديداً، لأنها لا ترفض الدين الإسلامي بالإطلاق، كما يلاحظ الكاتب، وإنما ترفض “فهماً محدداً وتصوراً نمطيّاً سائداً لهذا الدين”. وبهذا، تتميز حالة مَنجي عن النسويات الثلاث الأخريات اللائي يقرأهن الدكتور جدعان (تسليمة نسرين، وأيان حرسي علي، ونجلاء كليلك)، ممن يجاهرن بالنقد الواضح والقاسي للدين حدّ الإقرار بأنهن “فقدن إيمانهن”.

تشرع هذه الدراسة الباب واسعًا أمام جملة من الأسئلة التي يثيرها مشكل (النسوية الإسلامية الرافضة)، ويعرض لها الكتاب ويخصها بالبحث العلمي المحلل، وبالنظر المدقق والمساءلة النقدية:

ما الذي يثوي خلف هذا الخروج الصاخب لعصبة النسويات الرافضات في مدينة الإسلام الكونية، مدينة الإسلام المعولَم؟ وما علة هذا الغضب غير المقدس، والهجوم الذي يستبد بهن ويدفعهن إلى الجنوح للعنف اللفظي والعنف الوجداني في مقاربة “المقدس الديني” و “الجنس الآخر”؟ هل هي النواة الصلبة في المجموع الفقهي النسائي الإسلامي؟ أم هي إصابة في العقل الوجداني مبدؤها صدمات الطفولة وخبرات الإساءة المبكرة وسوء إدارتها التربوية؟ أم عسف الرجل نفسه والعطب القار في بنيته “البهيمية”، النفسية والأخلاقية؟ أم “الثورة على الأب” والنظام الأبوي؟ أم “الإمبريالية الثقافية العربية” و “إسلام الصحراء”؟ أم عقم الرؤية السلفية ومضادتها للعقل ونفورها من الحرية؟ أم العزوف والانحراف عن “منهج إعادة قراءة النصوص الدينية وتأويلها”، والغفلة عن أشكال التفاوت واللامساواة، و الاستبداد “الذكوري”، المعللة بظاهر “المجموع الفقهي النسائي”، قد لا تكون سوى تركيبات إنسانية، لا مظاهر للإرادة الإلهية؟ وهل حقا أن “الدين يدمر حياتنا”، وأن الإصلاح لا يتم إلا بالخروج منه وباعتبار القرآن “وثيقة تاريخية”؟

تلك أسئلة وتساؤلات جوهرية يثيرها الدكتور فهمي جدعان، ولا يزعم أن دراسته هذه ستفيها إجاباتها الشافية الوافية، مقدرًا أن واقع النظر في مشكل “النسوية الإسلامية الرافضة” يفرض قولاً في النسوية الإسلامية بإطلاق، والتي تبين عن نفسها في أعمال ثلاث مفكرات فذات بارزات هن: أمينة ودود وأسماء برلاس ورفعت حسن.

وحول تسمية “النسوية الإسلامية” يرى الدكتور جدعان أنه من المؤكد أن كثيرين من المسلمين لا يرتاحون لإطلاق مصطلح “نسوية إسلامية” لأسباب تاريخية، كذكرى الاستعمار أو إيديولوجية الخوف من غربنة المصطلح، لكن الدكتور جدعان يعتمد على رأي المفكر الإسلامي الأوروبي طارق رمضان؛ حيث يرى رمضان أن الحراك الفكري والاجتماعي الهادف إلى استنهاض وبعث قراءة حديثة للمصادر الإسلامية، وإلى تحقيق وضع استقلال شخصي للمرأة، هو في ماهيته ذو طبيعة نسوية، في حدود المطالبة بالحقوق، “في الإسلام وبالإسلام”.

 وبعد استعراض أراء واتجاهات النسويات المسلمات (أمينة ودود – أسماء برلاس –رفعت حسن – مارجو بدران) محل الدراسة في الفصل الأول، يركز الدكتور جدعان في الفصل الثاني المعنون بـ ” مرافعة امرأة غاضبة” على النسوية البنغالية تسليمة نسرين وأفكارها التي عبرت عنها من خلال أعمالها الفكرية والأدبية، مسلطًا الضوء على السياق الاجتماعي والشخصي والنفسي الذي تكونت في إطاره أفكارها.

ولدت تسليمة نسرين في عام 1962 في ميمسنغ في باكستان الشرقية، التي أصبحت منذ عام 1971 ضمن حدود بنجلاديش. كان والد نسرين طبيبًا وكانت أمها أمية وكانت العلاقة بين والدها ووالدتها شبه منعدمة فلا يهتم بها الأب، واستعاضت الأم عن ذلك بعزاء استمدته من “دين” تغلب عليه الأسطورة.

تعرضت نسرين في طفولتها وفي صباها لعدد من الأفكار والمواقف أورثتها بغضًا للدين، وجعلت تحمِّله – أي الدين- كل أسباب الشقاء الذي وجدت النساء البنغلاديشيات يعانينه. أجبرها والدها على التوجه لدراسة الطب لكنها لم تقنع بمهنة الطب، فقد كانت تريد أن تصبح كاتبة. وبالفعل فقد ذهبت هذا المذهب وراحت تضع المقالة تلو المقالة وتنشرها في صحف محلية، ثم ما لبث فضاؤها الأدبي أن اتسع وارتفع اسمها مثيرًا حوله الغبار والجدل والسجال. تميزت مواقف نسرين بالغضب الشديد، فقد انتقدت في مقالاتها الحجاب، وانتصرت لسلمان رشدي علانية ضد فتوى الخميني بإهدار دمه. وتركزت كتاباتها النقدية على الدين ودوره في الحياة الاجتماعية البنغالية بخاصة، وفي حياة المسلمين على وجه العموم. وقد أدت كتاباتها تلك إلى تعرضها للإيقاف على يد الحكومة البنغالية والشروع في محاكمتها لولا تدخلات دبلوماسية غربية أسهمت في إخراجها من البلاد، فتنقلت بين السويد وألمانيا والولايات المتحدة والهند إلى أن استقرت في السويد، متابعة كتاباتها شعرًا ونثرًا ورواية.

تطرح حالة نسرين التي تشترك في عوامل عدة مع الحالات الأخيرة النسويات المسلمات الغاضبات أسئلة مختلفة؛ لمن تكتب تسليمة نسرين؟ وما اللغة التي تختارها للكتابة؟. وفيما يتعلق بتفجرات اللغة وتجاوزات العقل الوجداني عند تسليمة نسرين وأيان هرسي علي وإرشاد منجي ونجلاء كيليك، وغيرهن، وعلاقة ذلك بالمعطى الديني الإسلامي، سيظل السؤال التالي قائمًا على الدوام: هل يكمن كل الخلل في عقول هؤلاء النسوة، أم أن قدرًا عظيمًا منه يكمن في “الصدمات” التي عرضت لهن، مثلما أن قدرًا أخر يكمن في “المعطى العملي” للدين في تشخصاته الزمنية فضلا عن المعطى النصي الذي حمله التراث الشعبي وتراث العلماء والفقهاء؟

ما هي الآثار النفسية والعقيدية والعملية التي يمكن أن تترتب على هذه الفهوم الإسلامية عند “جيل العصر” في مدن الإسلام المحلية فضلا عن مدينة الإسلام الكونية؟ يجيب الدكتور جدعان بأنها لن تكون أقل خطرًا وبؤسًا من المواقف والرؤى التي خلفتها الفهوم التقليدية لقضايا المرأة التي كانت موضوع سجال واحتاج ونقد في العصر الحديث، مثل عدم المساواة بين الجنسين، هضم حقوق المرأة، التفاوت في الإرث، الشهادة، العسف في الطلاق، الاستهتار في تعدد الزواجات، التضييق في الحجاب. ويضيف الدكتور جدعان في خلاصة إجاباته على هذه الأسئلة أن ظاهرة الرفض النسوي الإسلامي هي في جانب كبير منها ثمرة من ثمار هذه الفهوم التقليدية.

ويخصص الدكتور جدعان الفصل الثالث المعنون بقفص العذارى لحالة الصومالية أيان هرسي علي. ولدت أيان هرسي علي في مقديشيو الصومالية عام 1969 لأب منخرط في المعارضة السياسية المناهضة لنظام سياد بري، وأمٍ غاب عنها زوجها في المنفى منذ عام 1976 وأسلم إليها أمر عائلته فلقيت في رعايتها لأبنائها الثلاثة عنتًا شديدًا.

كالعادة تعرضت أيان هرسي علي لعدة صدمات في طفولتها كان من أبرزها هجران والدها لعائلته بعد عودته من المنفى وزواجه بأخرى، وقسوة أمها عليها، وتعرضها لتجربة الختان القاسية، ومحاولة أبيها إجبارها على الزواج من ابن عمٍ لها مقيم في كندا قبل تمكنها من الهرب إلى ألمانيا ثم إلى هولندا حيث استقرت. أعلنت هرسي علي إلحادها في عام 2002. وعلى ذلك فقد توجه غضبها بأكمله نحو الدين نفسه، متجاهلة العوامل الاجتماعية والتاريخية التي قد تكون ساهمت في خلق معاناة النسوة في وطنها وفي الملاجئ الأوروبية. تمثل هرسي علي حالة متطرفة من الغضب فهي توجه نقدها للقرآن وللنبي رأسًا وتحملهما مسئولية الأوضاع الاجتماعية السيئة التي يعانيها المسلمون عامة والنسوة منهم خاصة.

تبين المشاهد النسوية الرافضة التي عرض لها الدكتور جدعان في الكتاب أن هاجس “إصلاح الإسلام” هو المسوغ الأوكد في هذه “التجارب التي اتخذت صورها المتأخرة في فضاء ما يسميه أوليفييه روا الإسلام المعولم.

تصرح كل رموز النسوية الرافضة بأن فضاءات الغرب الإنسانية أتاحت لهن مساءلة المقدس ومحاورته والدخول في حالة “سجال” معه، وأن الحرية التي ينعم بها الغربيون ويتمتع بها المسلمون الذين التحقوا بعالمهم “الحر” تأذن لهن بأن يقلن مالا يمكن لهن قوله لو أنهن كن أو بقين “داخل السرب”. وفي حدود هذا الواقع تعلن هذه الرموز جميعًا أن قضيتهن “النسوية” ليست في نهاية التحليل إلا وجهًا رئيسًا من وجوه عملية ضخمة هي عملية “إصلاح الإسلام”.

يخصص الدكتور جدعان الفصل الأخير المعنون بمعركة التنوير لمناقشة الدعاوى الرئيسة للنسوية الإسلامية الغاضبة، مؤكدًا في البداية على استلهامها الأوكد لثبت متداول، بعضه قديم قدم الإسلام نفسه، وبعضه الأخر مستأنف في أعمال نفر منه المستشرقين المحدثين أو الباحثين المعاصرين الذين انكبوا على دراسة الإسلام. هذه الأوضاع التي ركز عليها المستشرقون والتي اعتبرتها  الإصلاحية الإسلامية مجرد شُبه تلحق بالنص. تخرج نسويات الرفض عن هذا وذلك برغم ما يزعمه بعضهن من أنهن ينشدن تأويل الإسلام من أجل إصلاحه. فتسليمة نسرين وأيان هرسي علي ونجلاء كيليك ينشدن ليس إعادة تأويل النصوص الدينية بل ينشدن إحداث إنقلاب حقيقي في مقاربة جذور المشكلة: العلمانية الإنسانية عند تسليمة نسرين ومساءلة الدين وحل العقدة الجنسية عند أيان هرسي علي ونقد الدين والثقافة والنزعة الأبوية عند نجلاء كيليك.

ويخلص الدكتور جدعان إلى أنه حين يتأمل القارئ في أحوال نسويات الرفض يدرك على الفور أن الإفراط الإنفعالي المعبر عنه في صورة الغضب قد بلغ عندهن مدى بعيدًا وأن فضاء الحرية الفسيح الذي توفر لهن وجَّه الإصابة لأن تتشكل في بينة الرفض الحاد، وتطال بدورها كل ما ألف العقل المعرفي أن يقف عنده موقف التفكر والفهم والتقييم الموضوعي الحكيم والأخلاقي. ولا يعني هذا من منظور الدكتور جدعان أن المعطيات الشخصية لكل حالة من تلك الحالات لم تكن تبعث على الاحتجاج والمساءلة أو الرفض فذلك أمر لا شك فيه. لكن لو أتيح لهاته النسويات، فيما يتعلق بالعامل الديني أن يطلعن على مزيد من المعطيات التراثية المتعلقة بعلاقة المرأة بالرجل، وقرأنها قراءة حرفية، لصدر عنهن من الاحتجاج والمساءلة والنقد أكثر بكثير مما صدر من الغضب والانفعال الوجداني.

ويطرح الدكتور جدعان في نهاية الكتاب تصورًا للجهود الاجتهادية التي قد تؤدي دورًا مركزيًا في القضايا والهواجس التي تثيرها حركة الرفض النسوي الإسلامي، وهو التصور التالي:

-تعزيز منهج القراءة التأويلية لجميع النصوص التي تتعلق بالقضايا التي يمكن أن تكون مثارًا لتوليد الألم والغضب والرفض عند المرأة المسلمة في زمن الحرية.

-تحرير العقل الإسلامي من خرافة الإمبريالية الثقافية العربية وبذل الوسع من أجل الإبانة بوضوح عن الغائية الإنسانية المطلقة لرسالة الإسلام في العالم.

-مقاربة الإساءات والاستفزازات والاعتقادات التي تخرق حدود المقدس بآليات العقل المعرفي لا العقل الانفعالي المصدوم، وبروح التواصل النقدي الحكيم لا بآليات الإقصاء والتكفير والافتاء السالب والاحتساب الذي لا يرحم.

– أن ما يصدق في شأن الإسلام العربي- يصدق بالقدر نفسه في شأن الإسلام غير العربي وأن ما يطال المرأة المسلمة في فضاءات الحرية المفتوحة في الغرب، يمكن أن يطالها في فضاءات الحرية المقيدة، بقدر أقل بكل تأكيد. قد يغلب عليه أن يكون، إلى حين، من “اللامفكر فيه”، أو المسكوت عنه، لكنه مهيأ للشخوص في الشاهد. لأن الجدران االعازلة لم تعد عازلة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.