المرأة في العصور الوسطى الإسلامية

تُظهر كثير من الكتابات الاستشراقية والعربية الحديثة المرأة كعنصر مجهول ومهمّش في تاريخ المجتمع المسلم؛ لذلك يسعى هذا الكتاب الذي يتحدث عن “النساء في العالم الإسلامي في العصور الوسطى” إلى توضيح هذا الخطأ عن طريق عرض سلسلة من البحوث والدراسات تتحدث عن المرحلة التي سبقت العصر الحديث للتاريخ الإسلامي.
في هذا الكتاب يجد القارئ تجارب لنساء عملن في السياسة، وشاعرات، وقائدات، إلى جانب بعض الناس اللواتي تجاوزن الصورة النمطية عن الحياة الخيالية في للنساء في صفحات كل من الأدب العربي والفارسي والتركي. كما أن الروايات التي ذكرناها في هذا الكتاب موثقة سواء في حياة بعض النساء التي اتسمت بالهدوء، أم التي ظهرت فيها المشكلات، كما في الروايات التي حُفظت في سجلات المحكمة في دولة المماليك في مصر، أو الدولة العثمانية في تركيا، وسواهما.
لا شك أن الكثيرين يعتقدون أن النساء المسلمات – خاصة في العصور الوسطى- لم يتركن أي بصمة في التاريخ، بيد أن هذا الكتاب يؤكد خطأ هذا التصور، حيث يعرض ويركز على دور وإسهامات النساء على العديد من الأصعدة الاجتماعية والثقافية والسياسية؛ استنادًا إلى بحوث ودراسات موسعة اشترك في إعدادها عشرون عالـمًا دوليًا.

في هذا السياق تتبدّى أهمية كتاب: “المرأة في العصور الوسطى الإسلامية” الذي حرّره غافن. أر. جي. هامبلي وصدر مكونًا من 23 بحثًا ترسم صورة للمرأة المسلمة في العصور الوسطى وحتى مطلع العصور الحديثة في العالم الإسلامي المؤرخة بأواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وعلى امتداد العالم الإسلامي من الهند وحدود الصين إلى المغرب وحدود الأندلس. وقد صدرت ترجمة الكتاب عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت، 2014.

ورغم هذه الصورة المجحفة للمرأة المسلمة في الكتابات الاستشراقية، التي يردها المحرر إلى التحامل المسيحي على الإسلام عقيدة ونظامًا اجتماعيًا، إلا أن هذا السياق لم يسلم من الخدش على يد باحثة أمريكية من أوائل من عملوا على تاريخ المرأة في الإسلام وهي نابيا أبوت (1897 – 1981 )الباحثة الأمريكية من أصل عربي التي ولدت في ماردين لأب مسيحي شامي عربي وسافرت معه إلى مومباي حيث تعلمت في عدة مدارس إنجليزية ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة وعملت في عدة مراكز بحثية مرموقة وكان من دراساتها “ملكات العرب قبل الإسلام”، و “النساء والدولة إبان ظهور الإسلام”. لكن هامبلي يلاحظ أنه من بدايات كتابة تاريخ المرأة، وصولاً إلى الوقت الحاضر لم تُكتب بعد دراسة بحثية سلطت الأضواء على المرأة في العصور الوسطى الإسلامية، باستثناء دراسة واحدة هي دراسة آن.ك.س. لامبتون لرسالة الماجستير التي حملت عنوان: “الثابت والمتغير في بلاد فارس في العصور الوسطى”.ويعدّدُ هامبلي بعد ذلك عددًا من الباحثين والدراسات التي تناولت جوانب جزئية من حياة المرأة المسلمة في العصور الوسطى، مثل ما كتبه المستشرق المجري الكبير إجناتس جولدتسيهر حول “الدور الروحي للمرأة في الإسلام”، وما استلهمته منه المستشرقة مارجريت سميث حول حياة وتعاليم المتصوفة الأولى في البصرة ربيعة (95ه – 185ه)، ثم ما كتبته باحثة تاريخ التصوف الألمانية الشهيرة آنا ماري شيمل عن “العنصر النسائي في التصوف الإسلامي.” وبعيدًا عن المرأة المتصوفة أُغفلت دراسة المرأة باحثة ومعلمة وناشرة للمعرفة. وتكشف دراسات مايكل تشامبرلين عن الحياة الفكرية في دمشق في العصور الوسطى أن وجود النساء المتعلمات والمثقفات في الطبقات الراقية الحاكمة كان قاعدة، لا استثناء. وفي واقع الأمر لطالما حظيت نساء الطبقة الراقية في المجتمعات الإسلامية التقليدية بفرصة التأثير في الشؤون العامة، حتى إن كُن استخدمن هذا النفوذ بصورة غير واضحة. إلا أن نموذج المرأة القوية تمثّل أكثر في شخصية الملكة الأم في الإمبراطورية العثمانية، أو والدة السلطان التي سعت للدفاع عن مصالح ابنها ضد منافسيه المحتملين على العرش.وثمة نموذج أخر لامرأة شاركت في الحياة السياسية هي بغداد خاتون التي كانت موجودة أثناء حكم الإلخان أبي سعيد (717-36ه/1304 – 35ه)، ومارست سلطة قوية في عهد المغول المسلمين.

ويقدم الكتاب كذلك نماذج أخرى لنساء شاركن في السلطة في عهد المغول الإيلخانيين من أمثال ساتي بيك أميرة الإيلخانيين، ابنة محمد خوادبنده أولجايتو التي حكمت البلاد وحدها مدة 3 سنوات. وتتضح كيفية تولي النساء السلطة في مجتمع متشكك لحد كبير في اقتحامهن الشؤون العامة في نساء السلاجقة في فارس، والسيدة الحرة: الملكة الصليحية الإسماعيلية في اليمن التي عرضت حالتها دراسة فرهاد دفتري، والسلطانة رضية بنت إلتتمش ابنة سلطان دلهي في الهند التي حكمت باسمها إلى أن أطاح بها الأمراء الناقمون عليها. إضافة إلى أخريات كان لهن نفوذهن من وراء الستار، مثل نساء الأسر التيمورية التي تعرضت لهن دراسة بريسيلا سوسك المعنونة بـ: “النساء التيموريات: نظرة ثقافية.”

إلا أن مشاركة المرأة المسلمة القروسطية من الشأن السياسي لم تكن الصورة الوحيدة لمشاركتها في المجال العام المسلم، وهناك صور أخرى كثيرة أبرزتها دراسات الكتاب، فنجد منها على سبيل المثال ورقة الباحثة ماريا توليماتشيفا عن “تقوى النساء ودعمهن للحج في العصور الوسطى”، حيث أتاحت فريضة الحج  إلى مكة للمسلمات في العصور الوسطى متنفسًا للخروج بعيدًا عن منازلهن؛ أداءً لشعائر هذه العبادة العامة المفعمة بالمشاعر، وقدمت الدراسة نماذج لمسلمات ثريات قدمن الخدمات للحجيج بوصفها صورة من الصور الدينية الإنسانية.

قدم الكتاب أيضًا نماذج للعلاقات الزوجية بين النساء المسلمات وأزواجهن في العصور الوسطى، وتقدم لنا دراسة كارل ف. بيتري المعنونة بـ: “الحقوق الزوجية في مقابل الامتيازات الطبقية: حالة طلاق في مصر في العصر المملوكي” تحليلاً وافيًا لقضية طلاق وقعت في القاهرة عام 1470 ملقيًا الضوء على المكانة الاجتماعية للمرأة في مصر في العصور الوسطى، وكذلك على تفسير حقوقها الزوجية أمام المحاكم الشرعية.

ومن دراسات الكتاب التي تناولت أيضًا العلاقة الزوجية للنساء المسلمات القروسطيات؛ دراسة ليزلي بيرس المعنونة بـ: “إنها مثيرة للمشاكل… وسأطلقها”: الدعاوى الشفهية، ودعاوى الشرف، وتمثيل النساء في محكمة عنتاب العثمانية” التي تناولت حالة امرأة تركية طلبت الطلاق من زوجها الفلاح في عام 1541 في حضور قاضي مدينة عنتاب، وما جرى بينهما مركزة على تأثير سجلات المحكمة المكتوبة للشهادة الشفهية للمتقاضين على تأريخ هذه المسألة.

المكانة القانونية للنساء في كل من الشريعة والعُرْف كانت أحد المحاور التي سلط عليها الكتاب الضوء كذلك من خلال دراسة إيفون ج. سنج المعنونة بـ:”النساء المحجوبات: المقيمات في اسطنبول في أوائل القرن السادس عشر”، التي تناولت فيها السجلات القانونية في اسطنبول أوائل القرن السادس عشر بهدف مساءلة الأدوار الاجتماعية والاقتصادية التي لعبتها النساء داخل المجتمعات المحلية، وخاصة ارتياد النساء للمحاكم القانونية. ودراسة فاريبا زارينباف شهر المعنونة بـ: “المرأة والنظرة العامة في القرن الثامن عشر باسطنبول”، والتي تناولت فيها العلاقة بين الشريعة الإسلامية والعُرف والقانون بشأن الجرائم الجنسية في الإمبراطورية العثمانية، كالخيانة الزوجية “زنا المحصن”، و السفاح “زنا غير المحصن”. حيث تلقي سجلات محكمة اسطنبول في القرن الثامن عشر الضوء على الأخلاق الجنسية المتغيرة في هذا المركز العالمي الكبير.

تتعين جميع موضوعات دراسات هذا الكتاب فعليًا في الك النماذج النسائية اللاتي اعتلين أسمى المقامات المجتمعية× كأمهات ملكات وزوجات وأخوات سلاطين، ومخظيات ووصيفات، وتبقى لنماذج النساء المنتميات لطبقات دون تلك الطبقات إسهاماتها في الأنسطة الاقتصادية، فلم يكن الاحتجاب في البيوت من شأن الفقراء، ما دفع النساء للعمل في الحوانيت والحِرف المختلفة، كما جرى توظيفهن على نحو كبير في مجالات الصناعات الأساسية وفلاحة الأرض ورعي الحيوانات.

إن هذا الكتاب يرسم صورة غنية بالتفاصيل لحياة المرأة المسلمة في العصور الوسطى بشكل يجعله لا غنى عنه لكل باحثي التاريخ الإسلامي عامة، والمهتمين بقضايا المرأة خاصة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.