يمكن التعامل مع كتاب “الصراع على السلفيّة: قراءة في الأيديولوجيا والخلافات وخارطة الانتشار” للباحث الأردني الدكتور محمد أبو رمان (الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت 2016) كـ (دليل التعرّف على السلفية المعاصرة) وهو شديد النفع للقارئ المبتدئ في هذه المسألة؛ القارئ الذي يبغي كتابًا يقدم له تصورًا عامًا عن الاتجاه السلفي المعاصر من جهة أفكاره وأعلامه وجماعاته في العالم العربي وخارجه في المحيط الإسلامي الكبير.

إن كتاب الصراع على السلفية قد أتى ليسُدَّ حاجة هذا القارئ تحديدًا ولخدمة هذا الهدف عمد المؤلف إلى العمل في الكتاب على عدة محاور

أولاً: تقديم موجز عن تاريخ الاتجاهات السلفية  في فصل تمهيدي شمل جذورها العقائدية والفكرية، وصورتها المعاصرة في السلفيات الإحيائية.

ثانيًا: التعريف بالاتجاهات والتيارات السلفية في العالم العربي مناطقيًا فبدأ بمعقل السلفية  في الجزيرة العربية (السعودية – الكويت – البحرين – اليمن)، ثم مسارات التشكّل السلفي في المشرق العربي ( سورية – العراق – لبنان – الأردن – فلسطين)، ثم ذهب إلى مصر مسلطًا الضوء على التحولات السلفية في ظلال الربيع العربي.

ثالثًا: مناقشة أهم القضايا المثارة سلفيًا بالذات في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وأهمها العلاقة بين الدين والديمقراطية وهل يمكن القبول بديمقراطية الدينية أو علمانية محافظة. ثم قضية الهوية التي يشكِّل العمل على حفظها والذبّ عنها أهم مقومات التصورات السلفية، ولا يكتفي هذا الفصل بالنقاش حول التغيرات المحيطة بالهوية الإسلامية العامة، بل بالهوية السلفية تحديدًا وكيف ينظر السلفيون إلى أنفسهم.

والدكتور محمد أبو رمان باحثٌ أردني حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة، وكانت أطروحته بعنوان: “الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي المعاصر”، وقد صدرت عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر2010، وله أيضًا: “الحاكمية وسلطة الأمة: الفكر السياسي للشيخ محمد رشيد رضا“، و “الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية”، و “أنا سلفي: بحثٌ في الهوية الواقعية والمتخيلة لدى السلفيين” و “السلفيون والربيع العربي: سؤال الدين والديمقراطية في السياسة العربية“، والعديد من الدراسات والمقالات الأكاديمية  في المنشورة في مجلات علمية محكمة.

في البداية يلوم المؤلف النخب السياسية والثقافية العربية التي تنظر إلى السلفيين كأنهم من كوكب أخر، لهم لغتهم وأفكارهم وتصوراتهم السياسية والثقافية المختلفة أو الغريبة تمامًا عن المحيط الاجتماعي والثقافي الذي يتم طرحه عبر وسائل الإعلام المختلفة، ويستشكل على هذا التصور بطرح تساؤل حول ما إذا كانت الأفكار السلفية هي الغريبة أم أن العكس هو الصحيح؟

إذا نظرنا حولنا وتأملنا واقع المجتمعات والثقافة العربية سنخلص إلى ملاحظة أن الأفكار السلفية منتشرة لدى قطاع واسع من الناس، وأن نمط “التدين السلفي” يحظى بانتشار جماهيري واسع نسبيًا ، بل إن السلفية هي الثقافة الدينية الغالبة في مجتمعات الخليج العربي، فضلًا عن أنهاحالة قوية وقائمة في المجتمعات العربية فيما تعاني “العلمانية” ومثقفوها حالة من التراجع والإنحسار الذي بدأ يأخذ شطر كبير منه في الأعوام الماضية “طابعًا سلفيًا”.

السلفية في الجزيرة العربية

 1-السعودية:

يلاحظ المؤلف أن الوسط السلفي السعودي مجزأ بين اتجاهات متعددة:

الأول: المؤسسة الدينية الرسمية، التي تراجع دورها كثيرًا بعد وفاة كل من ابن باز وابن عثيمين، وتتلقى الهجمات النقدية التي تطالب بالتحرر الاجتماعي وتقليص قبضة الدين على الحريات الفردية من قبل التيار الليبرالي والعلماني من جهة، وتعاني من الانتقاد الدائم لها من جانب تيار الصحوة بالجمود وعدم القدرة على تطوير آفكار وآليات تتناسب مع التحولات الجارية.

الثاني: الصحوة، وتمثل تيارًا سلفيًا كبيرًا اليوم، لكنه مشتت، غير واضح المعالم السياسية بعد خروج شيوخه من السجن ولجوئهم إلى مقاربة مهادنة مع السلطات،  وأكثر نعومة في التعبير عن مواقفهم السياسية، وبروز خلافات على السطح بين شيوخه، تتمثل في الاختلاف بين الشيخ سلمان العودة من جهة والشيخين سفر الحوالي وناصر العمر من جهة أخرى حول الموقف من الشيعة والديمقراطية والتعددية السياسية وحقوق الأقليات.

الثالث: الجاميون؛ وهو تيار له شيوخه ومريدوه، لكنه نخبوي لا يتمتع بحضور اجتماعي واسع كما هي الحال مع تيار الصحوة، ويقتصر دورهم الأساسي في المشهد السلفي السعودي على توجيه النقد للجهاديين والإخوان، وبصورة خاصة لتيار الصحوة.

الرابع: السلفيون الجهاديون؛ وينقسمون حاليًا بين من يؤمنون بخط القاعدة، وينضوون تحت لواءها في الجزيرة العربية، التي تشمل السعودية واليمن، وبين المؤيدين لتنظيم الدولة الإسلامية، أو ما يسمى بـ “ولاية نجد”.

الكويت

شارك السلفيون الكويتيون في انتخابات اتحادات الطلبة الجامعيين بصورة معلنة منذ بداية الثمانينات،وتولوا بعض الحقائب البرلمانية وشاركوا في انتخابات مجلس الأمة بداية من نفس الفترة. وعلى الرغم من أسبقية السلفية الكويتية عربيًا إلى مجال العمل الحركي والتنظيمي البرلماني، إلا أن موقفهم من الربيع العربي اختلف ما بين تيار أقرب إلى الطابع المحافظ – مثل جمعية إحياء التراث- وتيار زاد من جرعة خطابه السياسي المعارض، والدعوة إلى إصلاحات جذرية، كما هي الحال لدى حزب الأمة، فيما يتفق السلفيون الكويتيون عمومًا على ضرورة دعم الثورة السورية.

اليمن

يربط أغلب الباحثين المتخصصين بروز السلفية المعاصرة في اليمن باستقرار مقبل بن هادي الوادعي هناك، بعد عودته من السعودية في بداية الثمانينات، إثر اتهامه بالوقوف مع حركة جهيمان في الحرم المكي عام 1979. وقد استقر الوادعي في محافظة صعدة يدرّس العلوم الشرعية وينشر أفكاره من خلال “دار الحديث” . الانشقاق الأول عن مدرسة الوادعي حدث عام 1990، عندما قررت مجموعة من السلفيين تأسيس ما عُرف بـ “دار الحكمة الخيرية”، مع استقلال اليمن وتحريك الحياة الديمقراطية؛ من أبرز هذه الأسماء: أحمد حسن المعلم، عبد العزيز الدبعي، محمد المهدي، مراد القدسي.

توصف دار الحكمة فكريًا  وسياسيًا أنها متأثرة بأفكار الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وأنها على صلة بجمعية إحياء التراث في الكويت. ومع أنها لم تشارك في العمل السياسي مباشرة في مرحلة ما قبل الثورة اليمنية إلا أنها دعمت مرشحين في الانتخابات النيابية وتحالفت مع المعارضة الإسلامية – الإخوانية في المطالبة بالإصلاح السياسي. لكن حركة الإحسان عانت من انشقاق أخر على يد من سمّوا أنفسهم: “جمعية الإحسان” التي نشطت عام 1996 بصورة واسعة في مناطق اليمن الجنوبية، ومن أبرز قياداتها: عبد الله بن فيصل الأهدل، وحسن شباله، وحسن الزومي، وعبد المجيد الريمي، ومحمد بن موسى العامري. ويمكن القول أن الفارق الأساسي بين الحكمة والإحسان تكرس عبر اقتراب تيار الإحسان من أفكار “السرورية” التي تأخذ طابعًا سياسيًا معارضًا، وليس مهادنًا أو محايدًا مع الدولة.

في عام 1999، في الأشهر الأخيرة من حياة الوادعي، أسّس أحد أتباعه، مصطفى إسماعيل سليمان، الملقب بأبي الحسن المأربي، جمعية في منطقة دماج أطلق عليها مركز البر والتقوى. وبخلاف كل هؤلاء كان خط السلفية الجهادية والقاعدة حاضرًا في اليمن بصورة قوية منذ عام 2007.

انقسم موقف السلفية في اليمن من الثورة اليمنية  ما بين تيار مؤيد للسلطة وأخر مشارك في الثورة، وثالثٍ متأرجح بين الخيارين. التيار المؤيد للسلطة تمثّل بمجموعة الوادعي، وأبي الحسن المأربي، الذين رفضوا الثورة وتمسكوا بمواقفهم المعروفة من التزام طاعة النظام بوصفه: “ولي أمر المسلمين”، وتحريم الخروج عليه ومعارضته، فضلاً عن تحريم الاحتجاجات والاعتصامات والمظاهرات واعتبارها بدعًا ليست من الإسلام.

وعلى الطرف الأخر تمامًا جاء موقف عدد من العلماء والخطباء السلفيين متضامنًا مع الثورة، بل ومشاركًا فيها، وأغلب هؤلاء من تياري الإحسان والحكمة. وعلى الرغم من أن عددًا كبيرًا من علماء السلفية في اليمن من تياري الحكمة والإحسان، لم يعلنوا منذ بداية الثورة ضرورة إسقاط الرئيس ولم ينخرطوا فيها مباشرة، إلا أنهم أصدروا من الفتاوى والبيانات ما عزز شرعية المظاهرات والمسيرات، خصوصًا في مناطق حضرموت واليمن الجنوبي.

مسارات التشكل السلفي في المشرق

سورية: يمكن القول أن السلفية السورية تدين بالفضل للشيخ محمد ناصر الدين الألباني (1914-1999)، ورغم وجود بعض التشكلات السلفية السابقة على الشيخ الألباني إلا أن التيار الديني العام للمجتمع السوري كان باتجاه الإسلام الصوفي والإسلام الشعبي، وقد ساهم في رسوخ هذا التيار تبني الدولة الوطنية عقب الاستقلال له واستدخاله في أجهزتها الأيديولوجية، كمؤسسات الافتاء والأوقاف والقضاء الشرعي. هاجر الشيخ الألباني مع أسرته إلى دمشق عام 1922 قادمًا من ألبانيا، وبدأت رؤيته السلفية تتبلور من خلال إطلاعه على مجلة المنار التي كان يصدرها السيد محمد رشيد رضا، وتتلمذ على يد بعض السلفيين الإصلاحيين أمثال محمد بهجة البيطار، وبدأ اهتمامه بالحديث النبوي مبكرًا، وقد تلقى تعليمًا موازيًا بعيدًا عن المدارس النظامية التي كانت تخضع لتوجيه السياسة الاستعمارية. كرس الألباني معظم وقته للعناية بعلم الحديث، وشارك في النشاط الثقافي الذي ازدهر إبان الاحتلال الفرنسي من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية، والتصدي لعمليات التغريب الثقافي. وقد شهدت سورية في ثلاثينيات القرن العشرين تأسيس جماعة الإخوان المسلمين من خلال جمعيتها التي أنشئت عام 1939. وقد ارتبط الألباني بعلاقة وثيقة مع الإخوان المسلمين إلا أنه لم ينتمِ رسميًا إليهم. وكان مقربًا من الجناح السلفي في الإخوان الدمشقيين بزعامة مصطفى السباعي ومحمد المبارك، ثم عصام العطار وزهير الشاويش، ودخل في سجالات عديدة مع الجناح الأشعري الصوفي لإخوان حلب بزعامة عبد الفتاح أبو غدة، وحماة بزعامة سعيد حوى.

ثمة شخصية سورية أخرى كان لها تأثير كبير على السلفية المعاصرة وهو الشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين الذي تمكن من تأسيس سلفية خاصة به تُعرف بـ “السرورية”، وهو تيار أسهم بقسط كبير في بروز تيار الصحوة السعودية بجمعه بين الاهتمامين الشرعي والعقدي من جانب والطبيعة الحركية الإخوانية من جانب أخر.

العراق: دخلت الدعوة السلفية العراق في العصر الحديث عقب حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، حيث زار العراق في مرحلة مبكرة من حياته، إلا أن الأثر الأكبر جاء عن طريق آل الألوسي (أبي الثناء الألوسي وابنه نعمان الألوسي ثم الحفيد محمد شكري الألوسي) وتبعهم جمع من العلماء أمثال: حمد بن محمد العسَّافي، ومصطفى أمين الحسيني الواعظ، وعبد السلام الشواف، ومحمد بهجة الأثري. تبلور الاتجاه السلفي في العراق في منتصف الستينات بفضل جهود الشيخ محمد تقي الدين الهلالي المغربي، الذي كان له دور بارز في الدعوة الإسلامية عامة، وساهم بتكوين الدعوة السلفية في بغداد. ولم تكن الدعوة تسمى آنذاك بالسلفية، بل بالموحدين، وكان الاتجاه القطبي من الإخوان في العراق، خصوصًا إخوان مدينتي بغداد والبصرة، سلفيّ الانتماء، كالدكتور عبد الكريم زيدان والأستاذ عبد المنعم صالح العلي (المعروف بمحمد أحمد الراشد)، أما إخوان الموصل والرمادي (الأنبار حاليًا) فينتمون للاتجاه الصوفي الأشعري، وقد تحول عدد من الإخوان عن الجماعة للدعوة السلفية.

ارتبطت المرحلة التالية من تطور السلفية في العراق بظاهرة الصحوة الإسلامية في نهاية حقبة السبعينات، وساهمت السعودية بفعل الطفرة النفطية في نشرها من خلال المنح الدراسية المجانية والدعم المالي والتبشيري لمؤسساتها الدعوية، وبرزت في العراق شخصيات سلفية عديدة أمثال: إبراهيم خليل المشهداني، والمهندس رعد عبد العزيز أبو بكر البغدادي، وسعدون القاضي، وقاسم العاني، وقاسم الكبيسي وغيرهم. وفي هذه المرحلة اتخذت الدعوة السلفية مسارين:

الأول: تأسيس عمل دعوي منظم أطلق عليه لاحقًا اسم جماعة التوحيد أو الموحدين.

الثاني: رفض العمل الجماعي، والعمل بشكل فردي من خلال الجمعيات الموجودة.

وقد تعرض الاتجاه المنظم للدعوة السلفية عام 1979 لحملة اعتقالات واسعة، وشهدت مرحلة السجن انقسامًا معتادًا بين جماعتين: الأولى بزعامة رعد عبد العزيز (أبو بكر البغدادي) وهي تهتم بالعلم والدعوة وترى أن التنظيم وقع في أخطاء كبيرة، والثانية بزعامة أمير الجماعة إبراهيم خليل المشهداني (أبو مصعب) وهي جماعة تميزت بالضعف العلمي والتهور والثورية. استمرت الدعوة السلفية في العمل عقب مرحلة حرب الخليج الثانية 1991، ومع دخول عام 1997 بدأت السلفية العراقية تشهد انقسامًا أكثر حدة ووضوحًا بين السلميين والجهاديين، وباتت مشكلة الاختلاف في مفهوم الإيمان ومسألة تكفير الحكام تطغى على النقاشات الجارية. وأخذ سلوك الجماعات السلفية مسارات حادة بعد سقوط بغداد في 2003، ودخول القوات الأمريكية وعمليات الفرز بين السنة والشيعة وانقسمت الدعوة السلفية إلى عدة اتجاهات واتخذت مواقف عديدة من الاحتلال:

الأول: رافض لمقاومة المحتل لتوجه شرعي متأثر بسلفية الأردن، وأشهر هؤلاء: أبو المنار العلمي.

الثاني: رافض لمقاومة المحتل بسبب عدم تكافؤ القوة الأمريكية والعراقية، وهم سلفية كثر من طلبة العلم، ومن أصحاب هذا الرأي رعد عبد العزيز (أبو بكر البغدادي).

الثالث: يرى أولوية مقاومة الشيعة، وتبنى هذا الرأي جمع من السلفية ممن ركز على خطر التشيع إبان مرحلة التسعينات.

الرابع: يرى مقاومة المحتل، وهؤلاء انقسموا مذاهب شتى؛ فبعضهم شكّل فصائل جهادية معتدلة التوجه، اعتمادًا على مرجعية التيار الصحوي السعودي، ويقترب من أطروحات محمد زين العابدين سرور (السرورية)، ومن هؤلاء الجيش الإسلامي، وبعض كتائب ثورة العشرين (خليط من السلفية والإخوان)، وجيش المجاهدين، وغيرها من الفصائل. وبعضهم اتخذ مسارًا أكثر تشددًا، أمثال جماعة أنصار الإسلام، وتنظيم القاعدة بزعامة (أبي مصعب الزرقاوي).

السلفية في المشهد المصري

تنعكس الخارطة المتنوعة فكريًا وسياسيًا والاختلافات الواسعة بين التيارات السلفية في العالم العربي بصورة جلية في المشهد السلفي المصري، فكما هي الحال لدى التيارات السلفية المختلفة، فإن السلفيين في مصر ليسوا كتلة واحدة متناغمة ومنسجمة في الأيديولوجيا والخطاب أو العمل الاجتماعي قبل الثورة. ورغم اشتراك السلفيين المصريين في عدم دخول اللعبة السياسية بصورة مباشرة قبل الثورة المصرية، فإنهم اختلفوا في تسويغ ذلك العزوف وتأصيله، واختلفوا أيضًا في الموقف من النظام المصري بين مؤيدين ومعارضين ومحايدين، كما أن أفكارهم السياسية –وإن كانت فيها ملامح مشتركة عامة، كالموقف من الديمقراطية والدولة المدنية والعملية التشريعية-تباينت في تفاصيل مفصلية وهامة.

ليست السلفية الحديثة جديدة في مصر، أو وافدة على المحافل الدعوية والعلمية، بل هي ممتدة إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من خلال زمرة من المثقفين والعلماء المعروفين، وفي مقدمتهم محمد رشيد رضا (1865-1935) تلميذ الشيخ محمد عبده ورفيقه، وصاحب مجلة المنار الذي كان يعلن صراحة وبوضوح تبنيه وتأييده للحركة السلفية الوهابية التي ظهرت في السعودية وتحديدًا في قضايا التوحيد والعقيدة والعبادات، ورفض “البدع” الصوفية. مع مزجه بين هذه العقائد والمفاهيم السلفية ونزعتها العقلانية ومحاولاته الدؤوبة لجسر الهوية الواسعة بين الإسلام والغرب، من خلال إعادة فتح باب الاجتهاد والعقل، ورفض الجمود والتقليد، والتعصب للمذاهب والفرق والأولياء. وإلى جانب محمد رشيد رضا برزت أسماء كبيرة من المثقفين والمفكرين ذوي الاتجاه السلفي، مثل محب الدين الخطيب (صاحب المطبعة السلفية في القاهرة)، والمفكر والمحقق المصري أحمد شاكر، الذي تركزت جهوده على تحقيق كتب التراث الإسلامي. وعلى صعيد العمل المؤسسي؛ تأسست أول جمعية سلفية في مصر على يد الشيخ محمود خطاب السبكي 1912، وهي “الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة”، وجمعية “أنصار السنة المحمدية” التي تأسست عام 1926 على يد الشيخ محمد حامد الفقي. وعلى الرغم من هذا الحضور التاريخي والعلمي والدعوي للخطاب السلفي في مصر منذ بدايات القرن العشرين، إلا أن السلفية في مصر لم تسجل هذا الحضور العريض إلا في بداية السبعينيات مع ظهور “الدعوة السلفية” مدرسة الإسكندرية.

تأسست هذه الحركة على يد محمد إسماعيل المقدم، وسعيد عبد العظيم، وأحمد فريد، ثم ياسر برهامي. وعلى الغرم من أنهم تجنبوا الخوض في المسائل السياسية مباشرة أو تشكيل أحزاب سياسية، إلا أنهم اصطدموا مع الدولة في أحيان، مثلما حدث في 1994، عندما أغلقت الدولة معهدهم (معهد الفرقان)، ومجلة (صوت الدعوة)، مع إيقاف عدد من قياداتهم.

وعلى صعيد مواز، ومنذ ثمانينات القرن العشرين، بدأت تصعد أسماء دعاة سلفيين مستقلين أمثال محمد حسان وأبو اسحاق الحويني ومحمد حسين يعقوب ومحمد سعيد رسلان القريب من الخط السلفي المدخلي.

الاتجاه الآخر الأكثر تسيسًا في الحالة السلفية المصرية، وإن لم يمارس العمل السياسي مباشرة، هو ما يطلق عليه السلفية الحركية أو “القطبية” (تأثر بأفكار سيد قطب عن الحاكمية الإلهية وتكفير النظم التي لا تلتزم الشريعة الإسلامية) وبرز هذا الاتجاه بصورة خاصة في حي شبرا من مدينة القاهرة، ومن أبرز شخصياته محمد عبد المقصود، وسيد العربي، ونشأت إبراهيم، وفوزي السعيد.

إذا أردنا تلخيص الحالة السلفية في مصر قبل الثورة بصورة موجزة، يمكن وضعها ضمن المؤشرات التالية:

*خارطة متشعبة من الجماعات والمجموعات والدعاة، الذين يشتركون في العقائد الدينية السلفية، وفي المواقف الفكرية عمومًا تجاه العلمانية والديمقراطية والليبرالية، لكنهم يختلفون في قضايا أخرى؛ مثل الموقف من الحكام المعاصرين.

* اتسم النشاط السلفي تقليديًا بالتركيز على الجانب الدعوي والتربوي والعلمي والخيري، والابتعاد عن العمل السياسي المباشر.

*ازدهر الحضور السلفي في مصر في العقدين الأخيرين عبر الفضائيات والكتيبات والنشاطات الدعوية والعلمية والخيرية، واعتمد السلفيون بدرجة كبيرة على المساجد في نشر أفكارهم، عبر الخطب والمواعظ والدروس العلمية، وهو ما مكّنهم من الاستفادة من تضييق السلطات على الإخوان ومطاردتهم.

الشهور التي تلت تنحي مبارك كانت بمثابة “لحظة دقيقة” لمخاض تاريخي وفكري للسلفية في مصر شهدت مناظرات ونقاشات داخل التيارات السلفية وفيما بينها، إذ أعلنت الدعوة السلفية في الإسكندرية تأسيس حزب النور في يونيو 2011. وفي مرحلة لاحقة أعلن عن تأسيس حزب الفضيلة السلفي، ثم سحب عدد كبير من الأعضاء توكيلاتهم من الحزب وأسسوا حزب الأصالة بزعامة اللواء متقاعد عادل عبد المقصود شقيق الشيخ محمد عبد المقصود أحد أبرز شيوخ السلفية الحركية في القاهرة. وبالتزامن مع ذلك أعلنت مجموعة من شيوخ السلفية تأسيس “مجلس شورى العلماء” الذي قرر عدم الدخول في العملية السياسية مباشرة من خلال الانتخابات أو تأسيس الأحزاب، لكن مع دعم من يرونه الأصلح والأفضل في الانتخابات، ودعمت هذه الهيئة لاحقًا الأحزاب السلفية الجديدة، وبدرجة رئيسة حزب النور. وعلى الرغم من جدة السلفيين على المشهد السلفي في مصر إلا أن الأحزاب السلفية الجديدة أبانت عن قدرة كبيرة على الحشد والتوجيه تمثل في حصولها على المركز الثاني في أكثر مقاعد البرلمان المصري المنتخب بعد الثورة.

السلفية والديمقراطية والعلمنة

تتجاوز قراءة مستقبل الدور السياسي للحركات السلفية رصد خطابها وسلوكها السياسي إلى محاولة تأطير سيناريوهات أو صيغ العلاقة الممكنة بين الديمقراطية والدين، لتعريف ماهية الشروط الممكنة لتعايش كليهما ضمن منظومة واحدة أو متجانسة.

من خلال رصد الخطاب السلفي يجد المؤلف أنه محكوم بالفرضيات التالية:

  • الفصل بين الجانب الفلسفي من الديمقراطية والآليات؛ بدعوى قبول الآليات ورفض الفلسفة الديمقراطية بوصفها تعبيرًا عن الثقافة الغربية الليبرالية. وعلى هذا فالسلفيون يقبلون بصندوق الاقتراع كـ”أداة” للوصول إلى السلطة وتداولها، وبالتعددية السياسية والحزبية، لكنهم لا يقبلون بالدولة المدنية أو العلمانية كـ”شرط” لنجاح الممارسة الديمقراطية.
  • السلفيون يقبلون بالديمقراطية بوصفها “نظامًا انتقاليًا” وليس نهائيًا، فهم لا يتخلون عن حلمهم بـ”إقامة الدولة الإسلامية”، لكنهم يفضلون الديمقراطية على النظام الديكتاتوري، من باب “أخف الضررين”.
  • يستند السلفيون إلى “حكم الأكثرية” لنيل المشروعية في مشروعهم نحو “أسلمة المجتمع”، فالجمهور، وفقًا لهذه الفرضية، هو من يحدد خياراته، إذا كان يريد أن يُحكم بالإسلام أم بغيره، فهو الحَكَم بين القوى والأحزاب السياسية، وقد عبر عن هذه المعادلة بوضوح الشيخ السلفي محمد حسين يعقوب عندما خاطب العلمانيين بالقول: “بيننا وبينكم الصناديق”.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.