الرشد السياسي وأسسه المعيارية: من الحكم الراشد إلى الحوكمة الرشيدة
يتمثل الرشد السياسي بجملة من المبادئ الكلية والمعايير السياسية التي تجعل الحياة في المجتمع السياسي حياة منتجة، وتسمح للأفراد بتطوير حياتهم وتحقيق إمكانياتهم في أجواء من الحرية. هذه القيم تشكل المساهمة الحقيقة بوصفها مطلبا أخلاقيا عملت الرسالة الإسلامية على ترسيخه بتأكيد القيم التي تتناسب مع الحياة السياسية، ومع رسالة الإنسان الخاصة وغايته الوجودية، وبالتالي تساهم في ارتقاء المجتمعات الإنسانية، وتحفيز الإنسان على تحقيق الغاية الأساسية من خلقه، المتمثلة في تطوير حياته الاجتماعية.
ينطلق الكتاب من مفهوم الحكم الراشد ويبحث في مجالاته الدلالية، لا بوصفه آلية وبنية سياسية، بل باعتباره قرارا يتعلق بالحياة العامة، ويهتدي بجملة من القيم المعيارية الموجهة للقرار والفعل الناجم عنه. وبعد رسم حدود الحكم الراشد كما تجلى سياسيا في الخبرة الإسلامية التاريخية، تنتقل الدراسة إلى النظر في مفهوم الحوكمة الرشيدة بوصفها علاقة بين أفراد المجتمع المدني ومؤسساته من جهة، ومؤسسات الدولة السلطوية. وبالتالي فإننا في هذه الدراسة نسعى إلى النظر في القيم المعيارية التي صاحبت التحول من الحكم الراشد باتجاه قواعد سياسية مطلوبة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة التي لا يمكن لها أن تنمو وتتطور إلى باعتماد مبدأ الشورى، هذه القواعد التي نسميها قواعد الحوكمة الرشيدة ناجمة عن المزاوجة بين مبدأ الشورى والأسس المعيارية للحكم الراشد.
وبالتالي يسعى الكتاب إلى النظر في القيم المعيارية التي صاحبت التحول من الحكم الراشد باتجاه قواعد سياسية مطلوبة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة التي لا يمكن لها أن تنمو وتتطور إلا باعتماد مبدأ الشورى، هذه القواعد التي نسميها قواعد الحوكمة الرشيدة ناجمة عن المزاوجة بين مبدأ الشورى والأسس المعيارية للحكم الراشد .
المجال الدلالي للرشد السياسي
في بداية الكتاب يحدد الدكتور لؤي صافي هدفه منه وهو الابتعاد عن المواقف العقدية من مسألة الشرعية والمرجعية السياسية للدولة، وأنه يسعى للدخول في نقاش تفصيلي يتناول المفاهيم، ويتجاوز الثنائيات المتنافرة، بحثًا عن الأسس القيمية والمعيارية التي تؤطر للمفاهيم السياسية في إطاريها التراثي والحداثي على حدٍ سواء.
ويرى المؤلف أن مشكلة دعوات إحياء نموذج الخلافة هي أنها لا تعي أن النماذج التي تسعى إلى إعادة إنتاجها نماذج تاريحية، أسهمت في ربط قيم الرسالة ومفاهيمها بمجتمع سياسي تاريخي له خصوصياته التاريخية، وان نجاح تلك النماذج في سياقها التاريخي لا يعني قدرتها على تنظيم الحياة السياسة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. والرشد في اللغة نقيض الغي والضلال، وهو وصف لقول أو فعل يحقق كرامة الإنسان وعزته وفاعليته، والرشد رديف العقل، فالراشد هو العقل. والرشد السياسي الذي يسعى المؤلف إلى تحديد معالمه يتمثل بحملة من المبادئ الكلية والمعايير السياسية التي تجعل الحياة الجمعية في المجتمع السياسي حياة منتجة ومثمرة. وتنطلق الدراسة من مفهوم الحكم الراشد وتبحث في مجالاته الدلالية، لا بوصفه آلية وبنية سياسية، بل باعتباره قرارًا يتعلق بالحياة العامة، ويهتدي بجملة من القيم المعيارية الموجهة للقرار والفعل الناجم عنه. وبعد رسم حدود الحكم الراشد كما تجلى سياسيًا في الخبرة الإسلامية التاريخية، تنتقل الدراسة إلى النظر في مفهوم “الحوكمة الرشيدة” بوصفها علاقة بين أفراد المجتمع المدني ومؤسساته من جهة، ومؤسسات الدولة السلطوية.
معنى الحوكمة
الحوكمة مصطلح جديد يسعى إلى ربط مسائل السياسة وإدارة الدولة بالقوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة في تشكيل السياسات الناظمة للحياة العامة، وهو بهذا المعنى يعكس تحولاً من المقاربة التقليدية لدراسة السياسة بوصفها نتاجًا لمؤسسات الدولة الرسمية، ودراسة الإدارة العامة للدولة بوصفها جهدًا ديوانيًا إدرايًا صرفًا يسعى إلى تطبيق القوانين النافذة وتحقيق القرارات الحكومية.
الحوكمة إذن مقاربة تركز على دور الجماعات السكانية والقوى الاجتماعية في تطوير السياسات التي تنظم الحياة العامة في المجتمع السياسي، وتبحث في تفاعل هذه القوى، بصورة متوازية ومتراكبة، مع المؤسسات الأساسية الثلاث التي تحكم تنظيم المجتمع الحديث، وبالتحديد مؤسسات الدولة ومؤسسات السوق ومؤسسات المجتمع المدني.
النموذج المدني والرشد السياسي
الحوار حول طبيعة النموذج السياسي الذي يتوافق مع قيم الإسلام وتعاليمه، بين حماة النموذج التراثي والداعين إلى تطوير نماذج معاصرة تتناسب مع طبيعة المجتمع المعاصر الذي بدأ في مطلع القرن الماضي مع إلغاء منصب الخلافة، مازال محتدمًا إلى يومنا هذا.
ويرى الدكتور صافي أن الحكم في العصر الراشدي تميز بخضوعه إلى جملة من المبادئ المعيارية المنبثقة من التصور القرآني والتقاليد الرسالية التي رسّخها صاحب الرسالة، لعل أبرزها المعايير التسعة التالية
1-الاختيار
2-العدل
3-المساواة
4- المصلحة العامة
5- الحقوق والذمم
6- الحسبة (المحاسبة)
7- الأمانة
8- الكفاية
9- التكافل
الرشد السياسي وجدلية الشرعي والعقلي
الشريعة تمثل المنظومة المعيارية المستمدة من مصدر عُلوي ثابت حاكم للخبرة الإنسانية المتنوعة والمتغيرة، لذلك فهي تشكل مجموعة القيم والقواعد الحاكمة للدولة والمجتمع، ويرى المؤلف أنها بهذا المعنى تتطابق في تعريفها مع تعريف القانون بالمفهوم الحداثي الذي تم تطويره في عصر الأنوار الغربي، بل يمكننا القول إن مفهوم القانون الطبيعي الذي تبنته حركة الأنوار، والذي نجم عن الجهود الفكرية التي رمت إلى ربط المرجعية المعيارية في المجتمع بالفطرة البشرية، والسعي إلى إبعادها عن التقنينات الكنسية التي حكمت أوروبا في العصور الوسطى. وقد أدى بروز الشريعة مصدرًا لشرعية السلطة السياسية إلى انتقال تركيز الحوار داخل دوائر فقه السياسة من المقاربة البنيوية والوظيفية للسلطة السياسية إلى المقاربة المقصدية المتعلقة بالمرجعية القيمية للممارسات السلطوية.
والسياسة الشرعية بوصفها مصدر شرعية النظام السياسي والأحكام الصادرة عنه ترتبط بجملة من المبادئ والأحكام يشكل مجموعها ما تعارف عليه الفقهاء على تسميته بالشريعة. ويعود المؤلف إلى العز بن عبد السلام حين يحتاج لتعريف المصلحة والتمييز بينها وبين المفسدة فيبعر عن المصالح والمفاسد بالخير والشر، والنفع والضر… وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح والسيئات في المفاسد.
النظام الشوري والحوكمة الرشيدة
الشورى قاعدة سياسية حكمت عبر التاريخ المجتمعات الحرة التي يتمتع أفرادها بدرجة عالية من المساواة السياسية. واقتصرت الشورى في العصور القديمة على المجتمعات السياسية الصغيرة، وتمثلت بشكل خاص ضمن المجتمعات القبلية وبعض الدويلات الصغيرة. وقد عزز القرآن مبدأ الشورى، ودعا الرسول الكريم إلى التشاور مع أصحابه في الشأن العام، كما جعل الشورى صفة ملازمة للإيمان، وخاصة من خصائص المجتمع الملتزم بالتنزير وقواعده الأخلاقية. أما الشرعية السياسية التي أسستها نظرية الأحكام السلطانية التاريخية قامت على أساس صحيح، هو من جهة العلاقة التعاقدية بين السلطان والأمة، أو بين الدولة محل السلطة السياسية والمجتمع المدني مصدر السلطة السياسية، ومن جهة أخرى مبدأ الاختيار أو الشورى الذي يعطي الامة حق اختيار من يمثل مصالحها في دوائر السلطة السياسية المختلفة. ويقسم الدكتور لؤي صافي قيم الحوكمة الرشيدة إلى أساسية ووسيطة. الأساسية هي: الحرية والعدل والمساواة والتكافل والحقوق المدنية. أما الوسيطة فهي: التنافسية والشفافية والعدالة الإجرائية.
السياسات العامة وحدود المقاربة المعيارية
يحاول الدكتور صافي في الفصل الأخير من الكتاب أن يقدم نموذجًا تطبيقيًا لما نظّر له طوال الكتاب وقد كان هذا النموذج التطبيقي السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فيتسائل في البداية عن العلاقة بين السياسات العامة والتوجيهات الدينية في الفقه الإسلامي وإلى أي مدى يمكن للتصورات والاجتهادات والفتاوى والقيم الدينية أن توؤثر في تطوير السياسات العامة.
ويحدد الدكتور صافي في دائرة السياسات الاقتصادية مجموعة من القيم الأساسية المرتبطة بالمصلحة العامة التي تسعى هذه السياسات إلى تحقيقها أربع منها إيجابية وهي: النماء والعدل والتنافس والتكافل، بينما تتخذ الثلاث الأخرى صيغة سلبية وهي منع الغصب والغبن والغرر.