الديموقراطية والصراع العقائدي

في هذا الكتاب ينطلق الفيلسوف ناصيف نصار من سؤال مركزي حول علاقة التلازم بين الديموقراطية والصراع العقائدي. ومن ثم هل ولّى عصر الإيديولوجيات بحيث إن عصرنا قادر على معالجة أية مشكلة من المشكلات الاجتماعية في معزل عن غيرها، بطرائق الخبراء وأهل الإدارة؟ تقتضي الإجابة عن ذلك التذكير بمبادىء الديموقراطية والإلمام بما ينتجه الفكر العقائدي من مذاهب منذ سقوط الإتحاد السوفياتي الى أيامنا، مع التفات إلى كيفية انضواء كل من الإيديولوجية والدين تحت مقولة العقيدة. ثم يتوسع نصار في ضبط وشرح العناوين الرئيسية للمشكلات السياسية التي يواجهها المجتمع الديموقراطي والتي تتبلور تصوراتها في مذاهب متباينة ومتجابهة (هوية الوطن ومصيره، النظام السياسي والمجال العمومي، العدالة الاجتماعية، التنمية، الموقع والدور في العالم). وهو يبين أن فضاء الحرية والاختلاف في المجتمع الديموقراطي يحتضن التفكير العقائدي، الديني والإيديولوجي، احتضاناً طبيعيّاً، وفي معنى ما، ضروريّاً؛ ولذلك لا بد له من توظيف الصراع بين مذاهبه توظيفاً حضارياً، متنوراً ومسؤولاً، ومصقولاً بأرقى أساليب التواصل والنقد، حتى يستمد منه حيوية متجددة، وأسباباً للإبداع والارتقاء الاجتماعي. بهذا المعنى يواكب نصار حركة الانتقال إلى الديموقراطية في الوطن العربي.

هل الصراع العقائدي مشكلة من المشكلات الملازمة للديمقراطية؟

إذا كان الجواب بالإيجاب فذلك لا يعني فقط أن الحياة الديموقراطية لا تتعارض مع الأيديولوجية، بل يعني أيضًا أنا حيوية الديمقراطية مرتبطة إلى حد ما بحيوية الأيديولوجية وخصوبتها. ولكن قبل طرح الأيديولوجية ومعها بالضرورة الصراع العقائدي كمشكلة من مشكلات الديمقراطية، لابد من التخلث من فكرة شائعة في هذه الأيام تؤكد ان عصر الأيديولوجيات قد ولّى، وأن عصرنا قادر على معالجة أية مشكلة من المشكلات الاجتماعية في معزل عن غيرها بطرائق الخبراء وأهل الإدارة.

ويعود الفيلسوف ناصيف نصار هنا إلى الوراء قليلاً في تاريخ الأفكار والعلوم الإنسانية إلى اللحظة التي انبثقت فيها البنيوية وانتصرت وشاعت معها فكرة عامة مفادها أن عالم الإنسان يشتغل كمنظومة بنيت قائمة بنفسها – لغوية وذهنية واقتصادية وما شابه ذلك – بلا دور فعلي وأساسي للوعي والحرية وصراع الآراء والمصالح، وأن هذه الحقيقة ستزداد رسوخًا ووضوحًا مع تقدم علوم الإنسان على شاكلة علوم الطبيعة. وينقض نصَّار ذلك بالقول أن الأيديولوجية تعبير من تعبيرات الإنسان الاجتماعي كذات تفعل، بكل ما تعنيه الذات من مكونات وقدرات، تعبير له خصائصه وتاريخه إلى جانب و تعبيرات أخرى تشبهه أو لا تشبهه؛ وتفهّمه وجه من وجوه تفهم الذات وكيفية اشتغالها وفعلها في العالم.

ويتسائل نصَّار: ماهو الوعي الذي يصاحب أزمة الهوية في أكثر من دولة في العالم؟ هل يمكن أن نفهم الرأسمالية، والإمبريالية الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والحركات اليمينية في أوروبا، والصهيونية، والوهابية والثورة الإيرانية، وتغير الماوية في الصين، والطائفية في لبنان من دون توظيف قوي لمفهوم الأيديولوجيا؟ والإجابة: بالتأكيد لا.

وإذا كانت ثمة أسباب موضوعية للخروج من أجواء ما يسميه بعض دعاة ما بعد الحداثة: السرديات الكبرى، فإنه ينبغي عدم إرجاع الأيديولوجيا إلى تلك السرديات، وبالتالي عدم إهمال السرديات ذات الرؤية الصغرى والمتوسطة، كما ينبغي التمييز دومًا بين النقد العقلاني للأيديولوجيا وبين نقدها من مواقع تتحكم بها دوافع عاطفية كالخيبات، أو تجارب كفاحية كالهزائم، أو اعتبارات تمويهية لدعم سيطرة الأقوى.

ولكن إثبات ملازمة الأيديولوجيا للديمقرطية يتطلب مقدمات، بعضها يدور حول ماهية الديمقراطية، وبعضها الآخر يدور حول ماهية الأيديولوجيا، وذلك بسبب كثرة التصورات المتضاربة حول الديمقراطية والأيديولوجيا حتى في البلدان المسماة ديمقراطية.

في أركان الديمقراطية وشروطها الأساسية

أولاً: من المعروف نظريًا أن الديمقراطية – بموجب تعريفها إنها حكم الشعب لنفسه بنفسه – تنقسم إلى ديمقراطية مباشرة وغير مباشرة أو تمثيلية؛ من المعروف عمليًا أن قضية التمثيل الديمقراطية تنطوي على مشكلات عديدة بعضها يدور حول الشكل وبعضها يدور حول المبادئ السابقة على التمثيل حتى يكون ديمقراطيًا. ولهذا السبب يمكن ان يتطرق الخطأ إلى تصور الديمقراطية من باب اختزال تلك المشكلات، ولاسيما اختزالها في الشكل واختزال الشكل نفسه في الانتخابات.

ثانيًا: من حكم الشعب لنفسه تستنتج الفلسفة السياسية أن مبدأ الديمقراطية الأول هو مبدأ السيادة الشعبية؛ فلا ديمقراطية على الإطلاق من دون تسليم بهذا المبدأ لأنه المبدأ الحاسم الذي يميز الديمقراطية عن أي نظام اجتماعي سياسي آخر.

ثالثًا: الشعب في الديمقراطية جماعة حريصة على وحدتها وتميزها ومصالحها، ولكنها جماعة غير توتاليتارية؛ فكما تصنع الديمقراطية شعبًا ديمقراطيًا، تصنع بالقدر نفسه فردًا ديمقراطيًا.

ثالثًا: ينبني على ما سبق أن الديمقراطية نظام اجتماعي سياسي يستخدم الانتخاب كآلية لتكوين سلطة محكومة بثلاثة مبادئ: السيادة الشعبية، الحرية الفردية، المساواة بين المواطنين.

في تعقيدات المشهد العقائدي المعاصر

في المقالة الثانية من مقالات الكتاب يتناول الفيلسوف ناصيف نصَّار تعقيدات المشهد العقائدي المعاصر، وحدده في مجموعة من السمات

أولاً: في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية توزعت دول العالم كما هو معروف على كتلة غربية رأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكتلة شرقية شيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي، وكتلة ثالثة تجمعت دولها تحت شعاري عدم الانحياز والتحرر الوطني.

ثانيًا: عاد الدين الذي حاولت تيارات الحداثة إقصاءه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ونصَّار لا يقصد بالدين ظاهرة الدين بكليتها، بل الدين من جهة اتصاله بالسياسة واسترجاعه بدرجة أو بأخرى نموذج الدولة الدينية أو الدولة المتأدينة أو الدين المتدولن.

ثالثًا: تزامنت عودة الدين بكل وضوح مع هيمنة الإيديولوجية الرأسمالية – مدعومة بالثنائي المكون من العلم والتكنولوجيا وقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على السياسات الاقتصادية في الأكثرية الساحقة من بلدان العالم، واكتفاء الأيديولوجية الاشتراكية بمقاومة بعض النزعات المتطرفة للرأسمالية.

رابعًا: جمود حركة التحرر الوطني، ولا يقصد نصار بجمودها سقوطها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لأنها لم ترتبط به ارتباطًا عضويًا حتى تسقط بسقوطه، بل كانت تتلقى من دعمًا سياسيًا واقتصاديًا فقدته بسقوطه.

خامسًا: موقع الإسلام السياسي من هذا كله، فإذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية سوسيولوجية تاريخية، فإنه يبدو لنا أن الإسلام السياسي في تواصله وانفصاله عن حركة التحرر الوطني، أقرب إلى مواقع المقاومة منه إلى مواقع التحرر الراديكالي، على الرغم من بعض أشكالي الرفض التي يمارسها. الطرف الآخر هو نفسه: الغرب المهيمن بكل ما تزخر به دوائره ومذاهبه العقائدية. والمقاومة المطلوبة (ليست وحدها الممكنة) مقاومة ثقافية وسياسية. فماذا نقاوم من هيمنة الغرب السياسية والثقافية؟ وكيف نقاومها؟ وماهو البديل لما نقاومه؟ وكيف نكون جزءًا لا يتجزأ من الحداثة الثقافية والسياسية الأهلية في العالم؟ تلك هي أسئلة الصراع العقائدي في حركات الإسلام السياسي على اختلاف مذاهبها.

 

العناوين الناظمة للصراع في الديمقراطية

-تغير الديمقراطية معنى الصراع العقائدي الديني تغييرًا جذريًا، حيث إنها تنقله من مستوى الصراع بواسطة الدولة إلى مستوى الصراع بواسطة الشهادة، وذلك لأنها تعتبر الإيمان الديني قضية شخصية، تابعة لحرية الاعتقاد والضمير والدعوة، ومكفولة بالقانون لجميع المواطنين على حدٍ سواء.

-التفكير في هوية الوطن ومصيره يواجه في الديمقراطية ثلاثة أسئلة: أي صنف من الوحدة الوطنية؟ وأي نوع من المواطن؟ وأي علاقة مع المحيط؟

ويعود نصّار هنا إلى الديمقراطية ليس لأن الوطنية لا تملك معايير تسمح بالحكم على أنواعها وتعيناتها، بل لأنه يريد أن يدخل الفكرة الديمقراطية كفكرة فلسفية في قلب الصراع الأيديولوجي حول الوطنية والهويات الجماعية التي تنافسها في المعترك السياسي

-ومن السؤال الكبير عن هوية الوطن ووحدته ومصيره، تتفرع محاور النقاش في الديمقراطية بلا انتظام تحت عنوان أربعة عناوين: النظام السياسي والإداري، والعدالة الاجتماعية، والتنمية، والموقع والدور في لعبة الأمم

في الخاتمة أكد نصار على أن القضية الأساسية التي ينبغي التركيز عليها هي قضية حياة الديمقراطية وازدهارها أو متها واندثارها، كما أنها من حهة أخرى قضية تفتح الفكر بكامل أنماط اشتغاله، بما لها من قدرة على البقاء والتطور، ومن بينها نمط التفكير العقائدي.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.