الجماعة وتحولاتها: التجربة السياسية العربية – الإسلامية في فكر رضوان السيد

غلب على دراسات رضوان السيد واهتماماته الانشغال بموضوع «السياسة» في المجال الإسلامي. وكان قد أعد نفسه بحثياً ومنهجياً لهذه المهمة الصعبة، من خلال اطلاعه بصورة مبكرة على موضوعات التراث والتاريخ الحدثي والثقافي والسياسي العربي الإسلامي، ومن خلال امتلاك الأدوات العرفية اللازمة التي أهّلته لمتابعة الدراسات عن الإسلام مستخدماً المنهجيات الحديثة في مجال التاريخ الثقافي، أو في مجالات اجتماعيات المعرفة التي كانت المدخل الرئيس لأبحاثه في ميدان الإسلام. فضلاً عن ذلك، فقد عمل على تفحص المواقف المتضاربة من الإسلام من قبل العديد من الاتجاهات والقوى تنافست على تفسيره وامتلاكه.من هنا توزعت اهتماماته حول ثلاثة محاور أساسية، موضوعها الرئيس «سياسات الإسلام»، حيث انصرف في المحور الأول إلى تفحص التجربة السياسية الإسلامية في العصر الوسيط. وانصرف في المحور الثاني إلى تحليل ونقد تجربة الإسلام المعاصر في وجهيها الحركي والنظري. أما المحور الثالث يتعلق بتطوراته عن المستقبل الممكن والمستحيل الذي ينوس بين التصالح مع العالم والتاريخ، أو التخاصم مع الذات والعلم. فالإسلام والسياسات الإسلامية، هي المواضيع المحورية لأبحاث السيد برمتها، ويحاول هذا الكتاب تتبع أفكاره من خلالها.

قسَّم المؤلف كتابه إلى مقدِّمة وثلاثة فصول

جاءت المقدمة بعنوان: دراسة المنظومات الفكرية – السياسية والمؤسسية في التجربة السياسية الإسلامية

الفصل الأول: الشريعة والسلطة في التجربة السياسية العربية – الإسلامية

الفصل الثاني: تحولات الإسلام الحديث والمعاصر

الفصل الثالث: رؤية الإسلاميين للعالم في العصور الحديثة

حاول المؤلف في المقدمة أن يقدم صورة بانورامية للجهود التأريخية العربية الحديثة، فوزّع المؤرخين العرب المحدثين على أربعة أجيال: مثَّل الجيل الأول من هؤلاء المؤرخين خير تمثيل: حسن إبراهيم حسن الذي غلبت على أعماله الكتابة في التاريخ السياسي في العصر الوسيط. أما الجيل الثاني فقد خاض غمار البحث الاجتماعي والاقتصادي وأهم رموزه المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري. بينما اهتم الجيل الثالث: العروي، جعيط، الجابري بالثقافي والرمزي والأسطوري والأيديولوجي وقضايا الهوية والمفهومية، فكان أن ورث الجيل الرابع، جيل السيد، هذا الشاغل الرئيس لكنه تميَّز عن الجيلين الأول والثاني، بحكم ثقافته المستجدة ومتغيرات زمانه، بتمكنه من أساليب ومبادئ العلوم الاجتماعية، واستفادته من خبرات وطرائق تقنية متنوعة، ما أتاح له التمكن من كتابة التاريخ المفهومي والأيديولوجي للثقافة العربية الإسلامية الوسيطة.

الشريعة والسلطة في التجربة السياسية العربية – الإسلامية

إن القاسم المشترك لدى أصحاب دعوات العودة إلى الإسلام في جميع أزمات الصراع على السلطة قديمًا وحديثًا هو أنهم جميعًا جردوا خصومهم في السلطة من الإخلاص للإسلام ومن تطبيق الشريعة. ولعل حقيقة سقوط الدولة الأموية، كانت، بنظر السيد، من أخطر الفترات في التاريخ الفكري والأيديولوجي للعرب المسلمين، تضاهيها في الأهمية والخطورة الحقبة المعاصرة عندما سقطت الخلافة في تركيا.

تركزت دعاوى العباسيين والمعارضين للأمويين على علاقة الأمويين السيئة بالإسلام  وفي مقدمة علائمها وصولهم إلى السلطة بغير الشورى، وتوارثهم لها.. فقد كانت الأزمة آنئذ تتمثل في اقتناع كثير من رجال المسلمين “أن القوة السياسية طغت على الجذر الأيديولوجي للأمة ودولتها المتكوِّنة. كان التمايز بين الدين والدولة قد تزايد بعد أن جرى الاعتراف من جانب الفقهاء التابعين الذين اعتبروا سلطة الأمويين ملكًا وليست خلافة. وعندما نجحت الحركة العباسية في إسقاط السلطة الأموية وحلت مكانها باسم الإسلام، من دون أن تتمكن من حل إشكالية علاقة الدين بالسلطة، لم يكن صعود الجدل حول علاقة الشريعة بالسياسة أيام السلاجقة والمماليك إلا محاولة من الفقهاء لاستنقاذ ما يمكن استنقاذه، بعد أن رأوا غلبة السياسة على الشريعة في المجالات التي هي من اختصاص إسلام الشريعة.

ويرى الدكتور رضوان السيد أنه لم تحدث قطيعة في عصر النهضة بين العلماء والسلطان، جمعهم مشروع النهضة في مواجهة ما تعرضا له من خطر خارجي، غير أنه وبعد التدخل الغربي المباشر في البلاد الإسلامية، وتبنِّي نخبة السلطة التجربة الغربية حصل افتراق بين العلماء والسلاطين على مستوى إسلام الرؤية أيضًا، بعد أن كان الأمر تاريخيًا قاصرًا على التمايز على مستوى إسلام الشريعة. اما في الحالة الراهنة فيعاد طرح المسألة في مواجهة الدعوة المتصاعدة لعلمنة الدولة والمجتمع، وطرحت أخيرًا في ظل نظرية الحاكمية للمودودي وسيد قطب، والإمام الخميني.

تحولات الإسلام الحديث والمعاصر

لا يحدد السيد “الإسلام المعاصر” بمجال جغرافي، أي في انتسابه إلى قارتي آسيا وأفريقيا، بتداخله مع مفهوم العالم الثالث أو الدولة النامية، على طريقة جمال حمدان التي تحدد عن طريق الجغرافيا الإنسان وزمانه الثقافي والتاريخي. لكنه يحدده في المجال الثقافي العربي لأنه المجال الذي يعيشه ويعتنق هويته.

توصل السيد في مؤلفه: “سياسات الإسلام المعاصر: مراجعات ومتابعات” الصادر عام 1997، إلى استنتاج مفاده: أن هناك طابعًا عامًا للثقافة العربية هو الطابع الإحيائي. والإحيائية نزعة معروفة في تاريخ الفكر في العالم، تسود في حق التأزم الحضاري لدى الأمم والشعوب. ومن ضمن سماتها التركيز على قضايا الهوية والأصالة، واستبطان الذات والانكماش وإعادة النظر أو النظرة في الأصول، بحثًا عن مخرج من الماضي المنقضي، مستعينة بالصور الذهبية عن الحقب الذهبية، تأكيدًا للذات واتجاهًا لحماية النفس من أخطار الخارج ورياحه العاصفة، بل أن هناك نزوعًا لدى بعض المثقفين لاعرب، لا يقتصر على الإسلاميين، يرجح وجود مؤامرة واعية وعالمية غربية ضد العرب والمسلمين. وما دام الحاضر مقبضًا وغير واعد، فإن اللجوء إلى التاريخ يصبح مسوغًا للتعويض، ولحماية النفس، ولاصطناع نماذج وتمثلات حاضرة ومستقبلية في نظر القائمين على إنتاجها أو لإعادة إنتاجها بصورة معاصرة من دون الاكتراث بالجوانب الإبستمولوجية المعرفية. والأمر نفسه ينطبق في نقدها للغرب، ولنقضه معرفيًا ومنهجيًا.

 

رؤية الإسلاميين للعالم في العصور الحديثة

شدد رضوان السيد على حقيقة أساسية، فيما يتعلق بالفكر السياسي الإسلامي، بقوله إن “مأزق الفكر الإسلامي يتعلق بالرؤية السائدة للعالم فيه”، إذ نظر رضوان السيد إلى هذه الرؤية للعالم، على أنها العلاقة الكاشفة لتحولات الفكر السياسي العربي الإسلامي، ومؤشر خطير على هذه التحولات. إذ وجد العرب المسلمون أنفسهم منذ الحملة النابوليونية على مصر داخل علاقة مع أوروبا كان لأوروبا فيها موضع الهيمنة لدرجة أن صار تطورنا مرهونًا بطبيعة هذه العلاقة. ويرى السيد أن نجاح العرب والمسلمين في مسعاهم للنهضة متوقف إلى حد كبير على قدرتهم على صياغة رؤية تصالحية مع العالم تؤهلنا كي نكون قوة فاعلة فيه، لاقوة سلبية حاقدة عليه، تريد الثأر منه على مظالم نحسب أننا عانينا من جراء سلوكه ومؤامرته تجاهنا، مغمضين العين عن مسؤوليتنا تجاه ضعفنا وسوء إدارتنا لشؤون بلادنا.

ويؤكد السيد أن غياب رؤية مناسبة للعالم، لا بالمعنى النظري فحسب، بل بالمعنى الاستراتيجي والسياسي أيضًا: شكّل جانبًا من جوانب الأزمة في علاقتنا بالعالم. وهذا ينم من جهة أخرى على قصور معرفي شديد.

وفيما يتعلق بما آل إليه الفكر الإسلامي المعاصر من تصور مأزوم للعالم، يذهب السيد إلى القول إن مأزق الفكر الإسلامي الذي لا نستطيع الخروج منه ولا الفكاك، يكمن في تلك الرؤية الفصامية للعالم، ومسائل الولاء والبراء فيها. وقد أنتجت السياقات المأزقية صراعًا مزدوجًا على الإسلام. وحلل السيد التحول الكبير الذي حدث في الفكر العربي الإسلامي، منذ عصر النهضة إلى الآن، ولاسيما في صفوف الإسلاميين تجاه العالم والذات، فوجد أن التحول في رؤية هذا الفكر للعالم، إنما يعكس تخيُّليًا أو أيديولوجيًا مدى الأزمة أو النجاح الذي تواجهه المجتمعات العربية الإسلامية في القبض على مصيرها الراهن، وفي إقامة علاقة صحية مع العالم.

فمن الإصلاحية الإسلامية ذات النظرة المنفتحة والمتصالحة مع العالم، التي كانت تتمثل إشكاليتها الرئيسة في مقولة “التقدم” إلى الإحيائية الإسلامية التي صعدت ما بين الحربين العالميتين، وانكفأت على الذات، واستبدلت مفهوم “الهوية”، وما يستتبعه من اضطراب في العلاقة مع العالم، بمفهوم التقدم الإصلاحي، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه عند التيار التفكيري.

في الخاتمة أكد المؤلف أن السيد ينظر إلى الإصلاح الديني من وجهتين، أولهما تتعلق بارتباط هذا الإصلاح بالإصلاح السياسي، وبالرؤية العامة لسلم الأولويات، ولجدول أعمال تقدم المجتمعات العربية، ولمن تُعطى الأولوية، للإصلاح السياسي الاقتصادي أم للإصلاح الديني؟ وتتعلق ثانيتهما بالآليات الداخلية للإصلاح الإسلامي، ومفاهيمه، ومواءمة أو ملاءمة الإسلام مع الديمقراطية، والمفاهيم المعاصرة في السياسة وإدارة الشأن العام للخروج من العنف والانغلاق السياسي والاستبداد.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.