التصرفات النبوية السياسية

دراسة أصولية لتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمام

تعتبر دراسة مناهج فهم النصوص النبوية من أكثر الدراسات الأصولية والحديثية أهمية. فكون الحديث المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وأداة لفهم القرآن الكريم، يقتضي بذل الجهود لتطوير تصنيفه ودراسته وتحليله، وتفهم مقاصده وغاياته، وكشف علاقة أحكامه بالزمان والمكان ومتغيرات الواقع.

وموضوع هذا الكتاب يتعلق بواحدة من الأدوات المنهجية الضرورية لتحقيق ذلك. إنه تصنيف التصرفات النبوية حسب المقام أو الحال اللذين صدرت فيهما عن الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والتمييز منها بين ما هو دين وتشريع دائم للمسلمين، وما ليس كذلك. وهو تصنيف كان من المفروض أن يحدث تغييرات جوهرية في بنية التعامل مع الأحاديث النبوية، ومع الأحكام الدينية، لكنه لم يحظ – مع الأسف – بالاهتمام اللازم مما أدى إلى اختلالات عديدة في فقه الدين والحياة.

وقد ركّز المؤلف في هذه الدراسة على “التصرفات النبوية السياسية”، باعتبار أهميتها في مقاربة الفقه السياسي من منظور إسلامي، بدءا بطبيعة الممارسة السياسية للنبي الكريم، باعتبارها تدبيرًا دنيويًا مؤقتًا، وعلاقتها بمقامي النبوة والرسالة، وانتهاء بالأسس التي على المسلمين أن يبنوا عليها حياتهم السياسية والتصورات التي من المنطقي أن يحملوها في موضوع طبيعة الدولة ووظائفها وطبيعة الممارسة السياسية عمومًا. فعسى أن يكون هذا البحث إسهامًا منهجيًا لتجلية آفاق التغيير الضروري في ذلك.

أما مؤلف الكتاب فهو الدكتور سعد الدين العثماني، وهو سياسي وطبيب نفسي مغربي شغل منصب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي، وهو الأن يشغل منصب رئيس وزراء المغرب.

 ما التصرفات النبوية؟

قبل التعرض للتصرفات النبوية السياسية كان لزامًا على المؤلف أن يعرض لمعنى التصرفات النيوية وأدلة تنوعها وتصنيف الصحابة لها. وقد استغرقه هذا الباب الأول.

فالتصرفات النبوية هي عموم ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من تدابير (أو أمور عملية) من قول أو فعل أو تقرير، سواء كانت للاقتداء أو لم تكن، وسواء كانت في أمور الدين أو الدنيا.

أما أدلة تنوع التصرفات النبوية فقد قسّمها العثماني إلى قسمين

الأول هو تمييز الرسول صلى الله عليه وسلم لأنواع تصرفاته،  فقد وردت أحاديث كثيرة بيّن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أن بعض تصرفاته مخالف لبعض، وأن الصفة التي تصدر عنها هذه التصرفات متباينة، وأن لها دلالات تشريعية مختلفة.

والثاني هو تصريح الصحابة بتنوع التصرفات النبوية، حيث كان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون تنوع التصرفات النبوية من حيث دلالتها التشريعية، فكانوا يميزون مثلاً بين تصرفاته التي هي وحي وتشريع عام، وبين ما هو منها سياسة عامة للجماعة المؤمنة لتحقيق مصالحها ودرء المفاسد عنها، وبين ما يصدر عنه بصفته البشرية.

التصرفات النبوية السياسية: مفهومها وسماتها

على الرغم من ان وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم بالأساس هي النبوة وتبليغ الرسالة، إلا أنه مارس قيادة المسلمين وإمامتهم السياسية بكل ما تستلزمه من قدرة على الحكم والتنفيذ. وبناء على ذلك فإن العثماني قد عرّف التصرفات النبوية السياسية (أو بالإمامة) هي أنها: “تصرفاته بوصفه رئيسًا لدولة المسلمين في عهده، يدير شئونها ويتخذ الإجراءات والقرارات الضرورية بما يحقق المصالح العامة ويدرأ المفاسد العامة وفق المقاصد الشرعية في المجتمع.”

التصرفات النبوية السياسية عند الصحابة والعلماء المتقدمين

إذا كان تقعيد التصرفات النبوية وتمييز التصرفات بالإمامة من بينها قد تأخر في الدراسات الأصولية، فإن هذا لا يعني أن الصحابة والعلماء المتقدمين لم يكونوا واعين بها في تعاملهم مع السنة النبوية، بل كان المفهوم حاضرًا في أقوالهم وفتاواهم ودراساتهم وشروحاتهم للحديث.

ويقدم العثماني فهم الصحابة رضوان الله عليهم للتصرفات السياسية النبوية من خلال عدة مباحث، أولها مراجعتهم إياه صلى الله عليه وسلم في بعض قراراته كما حدث في غزوة بدر، وثانيها اقتراحهم رأيًا مخالفًا لرأيه فيما شاورهم فيه كما حدث في حالة أسرى بدر، وثالثًا تأويلهم لبعض تصرفاته صلى الله عليه وسلم أنها كانت لمصلحة وقتية؛ من ذلك اختلافهم حول تحريمه أكل لحوم الحُمُر الأهلية في خيبر، واختلافهم في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة”. وأخيرًا مراجعة الخلفاء الراشدين لبعض تصرفات النبي بعد وفاته كعدم تقسيمهم الأراضي المفتوحة في الشام والعراق.

وعلى الرغم من أن الفضل الأكبر في تمييز أنواع تصرفاته صلى الله عليه وسلم التشريعية وفي إبراز أهمية التصرفات النبوية بالإمامة وسماتها يرجع إلى الإمام شهاب الدين القرافي، إلا أن كتابات العلماء قبله لم تكن خالية من الإشارة إليها،  بل هي مبثوثة في ثنايا شروحهم لبعض الأحاديث أو تقريرهم لبعض الأحكام الفقهية. من ذلك قول سفيان الثوري أن للوالي أن يزيد مقدار الجزية أو ينقصها بموجب ظروف الواقع بخلاف تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها في حديثه إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن. وكان الثوري ممن قالوا أن الأمر متروك لاجتهاد ولي الأمر. ومن ذلك أيضًا قبول مالك أن يسعّر ولي الأمر السلع رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم رفض التسعير.. وغيره.

مسالك الكشف عن التصرفات النبوية السياسية

أما كيف نتعرف على التصرفات السياسية النبوية ونفرق بينها وبين غيرها من التصرفات النبوية فقد خصص العثماني الباب الثالث لبيان هذه المسألة. ويكد العثماني في مطلع الباب أن التصرفات السياسية النبوية تندرج تحت ما يسميه الأصوليون: “العام الذي يُراد به الخاص”. وبالتالي فقد اعتمد في الكشف عنها على ما يعتمد عليه الأصوليون من مسالك لتبينها، وهي النص، وعمل الخلفاء الراشدين، والإجماع، وقول الصحابي، وارتباط الحكم بعلة أو مصلحة عامة، والقرائن المحيطة.

أهمية التصرفات النبوية السياسية ودلالتها

تمثل التصرفات النبوية بالإمامة جانبًا من التطبيق العملي للوحي، والتنزيل الواقعي لمبادئه وأحكامه. وأهمية هذا الأمر تكمن في أن هذا التطبيق النبوي كان الوحي مواكبًا له بالتوجيه والتصويب، فهو بالتالي يعطينا مثالاً للاحتذاء في حركية الشريعة وواقعيتها، وفي مرونتها وإمكانات مواكبتها للمستجدات. في هذا الإطار يستعرض العثماني في الباب الرابع من الكتاب تعليلات العلماء من الصحابة ومن بعدهم لتغير التصرفات النبوية أو لاعتبارها خاصة بزمانها أو مكانها أو ظروفها ووجد أنها أربعة أنواع من التعليلات

  • التدرج في تنزيل الأحكام
  • اختلاف أحوال الناس وتطورها مع الزمن
  • حفظ النظام العام
  • مراعاة الأحوال الطارئة

بالإضافة إلى ذلك يرى العثماني أن التصرفات النبوية السياسية منهج لتجديد الدين في الواقع من حيث أنها منطقة مفوضة بعد مراعاة وجود ضوابط ثلاثة:

  • وجود نصوص ظنية مفتوحة لتجدد الفهم بحسب المصلحة التي يحققها هذا الفهم في واقع معين.
  • ارتباط الأحكام بعللها وجودًا وعدمًا.
  • استحداث أحكام لوقائع جديدة لم ترد فيها أحكام خاصة.

 

التصرفات النبوية السياسية وأثرها في تجديد الفقه السياسي الإسلامي

بما أن المجال السياسي مجالاً مفوضًا للاجتهاد البشري، فإن المعول عليه مما ورد في النصوص الشرعية في هذا المجال هو المبادئ والقيم  الموجهة، أما الأحكام الجزئية فهي إنما كانت  “مصلحة للأمة في ذلك الوقت وذلك المكان وعلى تلك الحال” كما ينقل المؤلف عن الإمام ابن القيم.

وعلى ذلك حدد المؤلف خمسة مسالك يمكن استعمال التصرفات السياسية النبوية فيها في تجديد الفقه السياسي الإسلامي، وهي:

  • مدنية الدولة في التصور السياسي الإسلامي.
  • الفصل بين السلطات
  • تاريخية التجربة الراشدية
  • التمييز بين الديني والسياسي
  • تحديد العلاقة بين القانون والشريعة

خاتمة

تقدم هذه لنا هذه الدراسة تصورًا تركيبيًا شاملاً عن التصرفات السياسية النبوية ومراتبها وسياقاتها ورؤية السلف وعلماء المسلمين لها، ثم تنتهي إلى دورها في تجديد الفقه السياسي الإسلامي المعاصر. وتتميز هذه الدراسة بخروجها عن السجالات الإسلامية الإسلامية التقليدية حول قضايا الدولة والديمقراطية والانتخابات لتقدم رؤية شرعية لمبادئ وقيم تحرك إسلامي في الواقع بعيدًا عن المغالاة والتساهل في آن واحد.

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.