الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي: المقاربات، القوى، الأولويات، الاستراتيجيات

شهدت العقود الخمسة الأخيرة صعوداً ملحوظاً للإسلاميين في المشهد العربي، سياسياً وثقافياً. واجتماعياً، وباتت الحركات الإسلامية فاعلا نسبيا في المعادلات الداخلية والاقليمية، بل حتى الدولية
الاشتباك الإسلامي مع المجتمع والسياسة ولد جملة كبيرة من المواقف المؤيدة والمعارضة، وأدى إلى سجالات واسعة في الفضاء الإعلامي والفكري، نجم أغلبها عن تساؤلات وجدليات بنيوية، يتمثل أبرزها: فيما إذا كان الفكر الاسلامي المعاصر يحمل في ثناياه “بديلا سياسيًّا” أفضل من الواقع الحالي، وفيما إذا كان يمثل إضافة نوعية على التيارات والحركات السياسية الموجودة على الساحة أم أنه حالة نكوص وردة إلى وراء…

من المشكلات الأساسية في التناول الإعلامي، وحتى المعرفي، للمقاربات الإسلامية هو الاختزال والتعميم، الذي يقفز عن الألوان المختلفة والمتباينة من المقاربات والأفكار الاسلامية في موضوع الإصلاح السياسي..

لكن وسط هذه الخريطة المتشعبة والواسعة من الرؤى والأفكار والتصورات حول الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي المعاصر، تبدو هناك مقاربات رئيسة تجمع كل منها مثقفين وكتاباً ومجموعات وجماعات إسلامية، في مقولاتها المفتاحية وحججها وأفكارها العامة، وقد ركز هذا الكتاب على عدة مقاربات أساسية: الثقافية، السياسية، وأخيراً الحركية.

وهذا الكتاب عبارة عن أطروحة دكتوراه قدمها د.محمد أبورمان في كلي الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة تحت إشراف الدكتور سيف الدين عبد الفتاح.. وقد تناولت بالرصد والتحليل الفكر الإسلامي (كجماعات ورموز) وموقفه من قضايا الإصلاح السياسي والثقافي.. وقد استعرض المؤلف عددا من أهم الجماعات والمراكز والشخصيات وقام بتحليل خطابها.

وقد حدد الدكتور أبو رمان المرحلة الزمنية محل البحث إذ يبدأ الكتاب بصورة أساسية، منذ العقد السادس من القرن العشرين، مع إرهاصات المد الإسلامي المعاصر، كما تؤرخ له أغلب دراسات الفكر السياسي العربي، وتحديدًا مع حرب 1967، إذ يعتبر منعطفًا لتراجع الفكر القومي وصعود الإسلامي، اجتماعيًا وسياسيًا، فيما تمتد فترة الدراسة إلى العام 2008. وعلى الرغم من ذلك يعود الكتاب إلى فترات سابقة، حين تقتضي الضرورة ذلك، وتحديدًا إلى “جيل الرواد” لكل مقاربة، الذين كان لهم الدور الأبرز في وضع أصولها وأفكارها الرئيسة.

أما الإطار المنهجي للدراسة فقد حدده الدكتور أبو رمان في إطار الفكر الإسلامي بشقه العربي، نظرًا للاختلاف الواضح في الكثير من المؤشرات والمعطيات الواقعية بين الدول العربية والإسلامية الأخرى أو حتى المجتمعات المسلمة في الغرب. سواء من حيث معطى الثقافة السياسية والاجتماعية أو حتى الشروط التقنية والاقتصادية، أو طبيعة النظم السياسية وأصولها، وهو ما يظهر جليًا في الاطلاع على مقاربات مفكرين إسلاميين من أوروبا أو آسيا، كعلي عزت بيجوفيتش أو طارق رمضان، أو مهاتير محمد وغيرهم.

وتقتصر الدراسة كذلك على الفكر الإسلامي السني، ويُستثنى من ذلك الفكر السياسي الشيعي المعاصر، على الرغم من تشابه البنية الاجتماعية والسياسية، في الدول العربية، لأسباب رئيسة في مقدمتها –بحسب الدكتور أبو رمان- أن منظور الخطاب الإسلامي الشيعي للإصلاح السياسي يختلف بوضوح في إشكالاته وأسئلته عن الخطاب السني. إذن سيُعنى الكتاب بالخطاب الإسلامي، العربي، السني، المعاصر منذ العقد السادس في القرن العشرين إلى نهاية 2008.

وقد جاء الكتاب في تسعة عشر فصلاً مقسمة إلى أربعة أقسام رئيسة، يعالج كل منها إحدى المقاربات في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ويتضمن فصولاً لأبرز الأفكار والمقولات والتفرعات داخل كل مقاربة.

بدأ القسم الأول بالمقاربة الثقافية في الإصلاح الإسلامي، ويتناول الفصل الأول “جيل الرواد- محمد عبده ورشيد رضا”: “الإصلاح الديني مدخلاً”. فيما يتناول الفصل الثاني أفكار مالك بن نبي (في الشرط الحضاري للإصلاح السياسي). والفصل الثالث يقترب من رؤية جودت سعيد (الإصلاح السياسي من القاعدة إلى القمة). أما الفصل الرابع فيتناول تجربة إسلامية المعرفة (المدخل المعرفي الفكري للإصلاح السياسي) معرجًا إلى الانتقادات الإسلامية والعلمانية لها. في حين يتناول الفصل الخامس تجربة الإسلاميين المستنكفين: الإسلاميون التقدميون، “الإصلاح الشبكي”.

ويتناول القسم الثاني المسألة السياسية في الإصلاح، من خلال عنوانين رئيسين: الأول هو غياب المقاربة الدستورية المؤسسية عن الفكر الإسلامي المعاصر. والثاني التركيز على العامل الخارجي. إذ يتناول الفصل السادس جيل الرواد في المقاربة الدستورية مثل خير الدين التونسي وامتحانه بوصفه إصلاحيًا في السلطة. فيما يناقش الفصل السابع أسباب تراجع مقاربة الإصلاح الدستوري والمؤسسي في الفكر المعاصر. أما الفصلان الثامن والتاسع فيتناولان المقاربة التي تمنح الأولية للعامل الخارجي وتضع الإصلاح السياسي الداخلي في مرتبة ثانوية، من خلال رؤية منير شفيق (التضامن العربي ومواجهة العامل الخارجي أولاً)، وعادل حسين (التنمية المستقلة المركبة في مواجهة التبعية).

ويناقش القسم الثالث مقاربات الإسلام الحركي، التي تغلب سؤال الهوية على الشواغل التجديدية، ويتناول الفصل العاشر “جيل الرواد” في جماعة الإخوان المسلمين، بين حسن البنا وسيد قطب (من الجماهيرية إلى الاصطفائية). أما الفصل الحادي عشر فيتناول فتحي يكن (في تحولات نظرية العمل). ويخصص الفصل الثاني عشر لمحمد قطب (القاعدة المسلمة رافعة الحكم الإسلامي). ويناقش الفصل الثالث عشر المبادرات الإخوانية الإصلاحية والسؤال الديمقراطي، في حين يخصص الفصل الرابع عشر لموضوع الإصلاح السياسي في ظل الاحتلال وتجربة الحزب الإسلامي في العراق، أما الفصل الخامس عشر فيتناول مقاربة “الإسلامية الوطنية في الاشتباك مع الازدواجية الداخلية”، من خلال فكر المستشار طارق البشري.

ويتناول القسم الرابع والأخير التجربة الحركية الإسلامية التي اعتمدت التغيير خارج قبة البرلمان وبعيدًا عن قواعد “اللعبة الديمقراطية”، ويستعرض أفكار أربع تجارب لجماعات وحركات إسلامية. فيتناول الفصل السادس عشر السلفية التقليدية (التصفية والتربية عن طريق الإصلاح). أما الفصل السابع عشر فيتناول السلفية الجهادية (الحاكمية والسيف). فيما يُخصص الفصل الثامن عشر لتجربة حزب التحرير الإسلامي (التغيير من السياسي إلى الاجتماعي). فيما يعرض الفصل التاسع عشر والأخير لتجربة جماعة العدل والإحسان المغربية (التغيير السلمي من خارج اللعبة).

ويخلص الدكتور أبورمان إلى أن الدكتور أبورمان أن المقاربات السابقة جميعها وجدت لنفسها أنصارًا ومؤيدين، ولها حضورها في السجال الفكري والسياسي الإسلامي، وان اختلفت أوزانها وحجومها على أرض الواقع. وبالنظر إلى المشهد السياسي العربي عمومًا في 2008 يجد الدكتور أبو رمان أن الأكثر نفوذًا وحضورًا في الشارع هي الحركات الإسلامية، وليست المقاربات الفكرية والثقافية، التي لا تزال تشكل حالة نخبوية إسلامية، بعيدًا عن التأثير الواسع في الشارع وثقافته وأفكاره.

وتفترق الحركات الإسلامية، الشعبية، عمومًا إلى ثلاثة اتجاهات رئيسة، اتجاه بات يعلن (مع وجود أسئلة وملحوظات) قبوله بالديمقراطية واللعبة السياسية، واتجاه أخر يرفض ذلك وجزء كبير منه يؤمن بالسلاح والعمل العسكري، واتجاه ثالث يرفض العمل السياسي المباشر ويدعم الحكومات في مواجهة الحركات الإسلامية.

وثمة تنافس كبير وحاد بين هذه الاتجاهات على مشروعية تمثيل ” الحالة الإسلامية” على أرض الواقع. وبمتابعة ادبياتها، فإن تصور وقوفها جميعًا على “أرضية مشتركة” تتوافق فيها على معالم الاتفاق وفقه الاختلاف، يبدو صعبًا. بل إن الواقع السياسي يشي بصراع شرس بين هذه الاتجاهات، يصل إلى حدود التكفير والتضليل وتجويز استخدام السلاح فيما بينها.

ويتسائل الدكتور أبورمان في نهاية الكتاب حول مآلات العمل الإسلامي وخياراته بين انهيار الحكم (كما حدث في العراق) بما يعزز مشاريع إسلامية معينة، ما يعزز مشاريع إسلامية معينة، أو انفتاح النظم السياسية على الإسلاميين بما يعزز مقاربات المشاركة السياسية، أم إن حالة الإغلاق والانسداد السياسي ستتحكم في المشهد العربي مما يعزز مقاربات “العمل المسلح” و السري؟

ويترك الدكتور أبو رمان الإجابة لقابل الأيام.

.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.