لقد شكل انتهاء الحرب الباردة في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي بداية حقيقية لثورة جديدة في المفاهيم ودلالاتها، وخصوصًا على صعيد النظرية السياسية الدولية أسوة بالتبدل الذي شهدته قواعد العلاقات وإدارتها بين الدول في إطار نظام دولي متغير هو الأخر. وكان لضخامة الحدث وما ترتب عليه من تغيير جوهري في شكل النظام الدولي القائم وآليات عمله ومعاملات توزيع القوة والقدرة في إطاره.

هنا يطفو مفهوم الردع إلى قمة اهتمامات التفكير الاستراتيجي والجدل السياسي في ظل المتغيرات السياسية والاستراتيجية التي هزت العالم بانتهاء الحرب الباردة، بعدّه أحد أركان استراتيجية المواجهة في تلك الحقبة، والذي ألقى بثقله على مؤسسات البحث السياسية والاستراتيجية، واختلف في مداه وحدّته تبعًا لطبيعة التطور الحاصل في وسائل تحقيقه ومستويات عمله.

ومع انتهاء الحرب الباردة تبارى الكثير من المفكرين والباحثين في العلوم السياسية في التبشير بنهاية استراتيجية الردع وتلاشي أسبابه لتغيير طبيعة التهديد الذي مثله أحد أقطاب نظام توازن القوى إبان الحرب الباردة، وانكفاء قدرته على مواصلة طريق بناء القوة الكفيلة بتحقيق الردع في مواجهة الخصم، بما يؤشر غيابًا ماديًا وحقيقيًا للمردوع، ويعني بالمحصلة غياب الأهمية المعلقة على وجود الرادع، وبالمحصلة انتفاء ضرورة في قيام معادلة ردع على النحو الكلاسيكي الذي عرفناه طيلة الحرب الباردة.

وتأتي أهمية هذا الكتاب الذي كان في أصله أطروحة دكتوراه في العلوم السياسية في جامعة بغداد للدكتورة سوسن العساف من متابعته لهذا الجدل الفكري كله، وتحليله بروح جديدة، ومن زاوية مغايرة  تستلهم أثر المتغيرات الدولية المعاصرة في المنطلقات النظرية والعملية للتفاعلات القائمة واستخلاص النتائج منها، وأثرها في واقع التحليل العلمي ضمن النظرية السياسية الدولية ومستقبله في صياغة الأوضاع الدولية في النظام الدولي الجديد.

وتأتي فرضية الدراسة لتؤكد أن الردع ما زال استراتيجية قائمة تمارس وجودها في العلاقات الدولية الحالية، وما يجعل من علاقة استراتيجية الردع علاقة مستمرة هو ما يطلق عليه الآن ثورة الشئون العسكرية التي أتت بها دلالة الثورة التكنولوجيات الحديثة المتاحة لدى أطراف متنوعة مكنتها من التطلع إلى إحداث مستويات خاصة من الردع في مواجهة أطراف نووية بالدرجة الأساس.

وعلى ذلك فإن استراتيجية الردع في ظل العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة وأثرها في استقرار النظام الدولي هو موضوع هذا الكتاب. وقد جاء الكتاب في خمسة فصول بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة.

في الفصل الأول المعنون بـ الردع: دراسة في المفهوم ناقشت العسَّاف الأطر المفهومية واللغوية للردع، مقاربة إياه مع المصطلحات والمفاهيم الأخرى ذات الحقل الدلالي المشترك مثل الحرب والأزمة والإرهاب. ففي القسم الأول ناقشت مفهوم الردع في المدلول اللغوي والمفهومي، وفي الثاني أسهبت في شروط الردع وأشكاله ومستوياته. أما القسم الثالث فقد خصصته لاستراتيجية الردع الأمريكي في الحرب الباردة

وفي الفصل الثاني المعنون بـ استراتيجية الردع بعد انتهاء الحرب الباردة اطرقت العساف لافتراضات انتهاء أو بقاء الردع في ظل المتغيرات الدولية الجديدة وفق أسس التحليل النظري لاستراتيجية الردع، وربطها بالأوضاع الدولية التي عصفت بالعديد من المفاهيم والمصطلحات التي أفرزت مضامين وآليات استراتيجية جديدة. وقد ناقشت العساف هذا الموضوع في القسم الأول من الفصل وركزت فيه على أهم متغيرين دوليين أثرا بشكل مباشر في استراتيجية الردع بمفهومها الكلاسيكي وهما تعدد القوى النووية والثورة في الشئون العسكرية.

وفي القسم الثاني تطرقت العساب إلى التحولات الحاصلة على استراتيجية الردع، وركزت فيه على ثلاثة افتراضات أساسية للربط بين الردع والنظام الدولي، وهم زوال الردع بزوال القطبية الثنائية واستمرار الدرع في ظل القطبية الأحادية واستمرار الردع في ظل قطبية متعددة بهمينة الولايات المتحدة الأمريكية

أما الفصل الثالث المعنون بـ العقيدة الأمريكية الجديدة للقرن الحادي والعشرين فقد ناقش تعريف العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة وتحليلها من خلال ثلاثة أقسام رئيسة. في الأول ناقشت العساف تعريف العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة على أساس انبثاقها من الفكر العسكري الأمريكي وصبها في الاستراتيجية العسكرية ذات الهدف الأساس دفاعا عن الدولة وتحقيق أمنها القومي. وتطرقت فيه العساف إلى القدرات العسكرية الأمريكية بشكل تفصيلي، وقارنت العقيدة العسكرية الأمريكية في الحرب الباردة وما بعدها.

وعالجبت العساف ضمن القسم الثاني من الفصل الثالث أثر العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة في السلوك السياسي الخارجي الأمريكي، ولاسيما بتبني الولايات المتحدة الضربة الاستباقية والضربات الوقائية لمرحلة ما بعد 11 سبتمبر، ناقلة هذا الإطار النظري إلى شكله العملي في أفغانستان والعراق.

وأفردت العساف الفصل الثالث للضربة الوقائية بمفهومها وتأثيرها في السياسة الكونية الأمريكية، وذلك من خلال المقاربة بين الردع التعرضي والضربة الوقائية، ثم جدلية الفعل الوقائي والضربة الاستباقية، وكلها تصب في الاستراتيجية الأمريكية العالمية الجديدة الساعية للهيمنة.

وجاء الفصل الرابع المعنون بـ الاستراتيجية الأمريكية الجديدة: المضمون، والآليات، والنتائج، والآثار لينقاش أسلوبي النظرية والتطبيق من خلال أربعة أقسام أساسية. الأول: “الاتجاهات العامة للاستراتيجية الأمريكية العالمية”، والثاني “المشروع الأمريكي والعقيدة العسكرية الجديدة للقرن الحادي والعشرين” وركزت فيه العساف على مشروع القرن الأمريكي الجديد، وأشكال الحروب الأمريكية التي ستقودها لتحقيق الهيمنة وجعل القرن الحادي والعشرين أمريكيًا من خلال ثلاثية استراتيجية قائمة على “الحرب اللامتماثلة، والإرهاب، والقدرة على التدخل”.

أما القسمين الثالث والرابع فقد عالجا الفعل الاستباقي والوقائي وتأثيراتهما الاستراتيجية في النظام الدولي الراهن والجديد. فالقسم الثالث حلل أثر الضربة الاستباقية والوقائية في العلاقات الدولية بالمستويات الإقليمية (إيران، سوريا، كوريا الشمالية). في حين خُصص الرابع لدراسة أثر استراتيجية الردع الجديدة في علاقات القوى العالمية (روسيا، أوروبا، الصين).

وتأسيسًا على الرؤية المستقبلية التي استشرفتها هذه الأطروحة قام الفصل الخامس المعنون بـ استراتيجية الردع الأمريكية واستقرار النظام الدولي الجديد: رؤية مستقبلية بربط استراتيجية الردع بالآليات والأدوات الجديدة مع استقرار النظام الدولي الجديد، وذلك من خلال ثلاثة أقسام أساسية. ناقش أولها الأطر المفهومية للاستقرار واللااستقرار وأنماط النظام الدولي. في حين خصصت العساف الثاني للخوض في أثر الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لتأمين استقرار النظام الأحادي القطبية. وأخيرا طرحت في القسم الثالث رؤية مستقبلية على المدى المتوسط والبعيد لاستراتيجحية الردع والنظام الدولي الجديد المختلط الأحادي – المتعدد الأقطاب.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.