ابن تيمية وعصره
لا نجد الكثير من علماء العصور الإسلامية الوسطى ممن يتمتع بحضور قوي في الخطاب الإسلامي المعاصر كالحضور الذي يتمتع به ابن تيمية، والذي كان قد بدأ مع ظهور الدعوة الوهابية في القرن الثامن عشر الميلادي في الجزيرة العربية، مرورًا بزعماء الإصلاح في العراق، وحتى إندونيسيا، ليصبح بعدها ابن تيمية بمنزلة المهندس للحركة السلفية، التي كانت تنادي بالرجوع إلى عصر السلف وهدي النبوة.
أصل هذا العمل هو أعمال مؤتمر بعنوان: “ابن تيمية وعصره”، وقد عُقد هذا المؤتمر في جامعة برنستون (8 – 10 أبريل 2005). ويوضح المحرران أن الهدف من هذا المؤتمر كان تقديم نظرة متعددة التخصصات لحياة ابن تيمية وأعماله وتراثه الفكري.
إن الغاية من هذا الكتاب – كما يوضحها المحرران- هي الإجابة على ثلاثة أسئلة مترابطة، ويتعلق السؤال الأول بتحديد مقاربة مشتركة تقوم على أساس المساهمات الكثيرة والمتميزة لابن تيمية في الخطاب الفقهي والعقيدة والفلسفة والتفسير والحديث والفقه والتصوف والنظرية السياسية والجدل العقدي، هل هناك منهج تيمي واضح المعالم؟ وإذا كان كذلك فما هي خصائص هذا المنهج؟
أما الأمر الثاني الذي نروم بحثه فهو يتمثل في السياق التاريخي لابن تيمية: كيف أثر السياق الفكري والسياسي والاجتماعي في فكر ابن تيمية ومساره المهني؟ ما تأثير جوانب سيرته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية وولاءاته الطائفية على تطور أفكاره؟
وأخيرًا يرمي هذا الكتاب إلى معرفة مدى طبيعة تأثير فكر ابن تيمية في القرون التي أعقبت وفاته، وكيف كان تلقي المسلمين في العصر الحاضر لأفكار ابن تيمية وكيف قُدمت هذه الأفكار؟ ما السبل التي جعلت من أفكار ابن تيمية تؤثر في هذا التأثير خلال القرن الماضي، وما السبب في تأثيرها؟ هل كان ابن تيمية فعلا مهيمنا على تاريخ الفكر الإسلامي في القرن العشرين، أم أنه هو نفسه كان مهيمَنا عليه جراء مخاوف معاصرة؟
يضم الكتاب بين دفتيه اثنتي عشرة ورقة بحثية تتوزع على عدة مباحث أولها ترجمة ابن تيمية وعلاقته بالوسط الحنبلي المحيط، ثم أراءه التي أبان عنها في مجال العقيدة وخلافاته مع متكلمي عصره من الأشاعرة، مرورًا بأعماله وأرائه في التأويل والفقه والجدل الشيعي النصراني، وصولاً إلى بحث الآثار التي خلفها فكر ابن تيمية على العصور التي تلته حتى العصر الحديث.
كانت ترجمة ابن تيمية وعلاقته بالوسط الحنبلي في عصره محور المبحث الأول في الكتاب، وتمثَّل في الدراسة المعنونة بـ: “ابن تيمية وجماعته: المرجعية والصراع والإجماع في محيط ابن تيمية” لكاترينا بوري. توضح بوري في هذه الدراسة قطيعة ابن تيمية مع المحدِّثين من أوساط الحنابلة الذين نشأ بينهم؛ فالعلماء المعاصرون لابن تيمية من أهل الحديث لم يكونوا بالضرورة من المناصرين لابن تيمية. وبدلاً من صورته كزعيم لحركة جماهيرية، تقترح بوري تصور ابن تيمية كقائد روحي لجماعة صغيرة من العلماء.
وتشير بوري إلى أن معارضة النخبة العلمية المتحكمة في وجه ابن تيمية لا علاقة لها بشخصيته التي يقر الجميع بأنها شخصية صعبة المراس، بل كان سببها الأساسي هو منهج ابن تيمية الراديكالي. ثم تنتقل بوري بعد ذلك إلى تأريخ محطات الصدامات الأساسية بين ابن تيمية ومعاصريه من أهل الحديث، وأولها محاكمته الأولى التي جرت في دمشق حول عقيدته (الواسطية)، أما المحطة الثانية فهي مسألة الطلاق المعلَّق، إذ خالفت فتواه فيها ما استقرت عليه الفتوى في المدارس الفقهية السنية.
المحور الثاني من محاور الكتاب هو المحور المتعلق ببحث آراء ابن تيمية العقدية، وجدله مع متكلمي عصره وعلى رأسهم الأشاعرة. ويضم هذا المبحث ثلاث دراسات، هي: “الصفات الاختيارية” لجون هوفر، و “المنهج القرآني العقلاني لابن تيمية ونقده المتكلمين” لمحمد سعيد أوزرفارلي، و “ثيولوجيا السنة عند ابن تيمية وجدله مع الأشاعرة” لرشا العمري.
يعتبر جون هوفر أن تلك الصورة التي تعتبر ابن تيمية شخصًا مناهضًا للعقل هي صورة تحتاج إلى تصحيح، وهو يرى ابن تيمية مدافعًا عن تماسك وعقلانية المادة العقَدية التي نجدها في النصوص النقلية، بحيث يقدم لنا تفسيرًا فلسفيًا ودفاعًا عن النقل. وفي نظرته لله ينطلق ابن تيمية في قراءته لنصوص القرآن والحديث من تمكّنه في اللغة، إذ تمثل نظرته تلك محاولة لشرح هذا النوع من “القراءة” وحمايته عبر وسائل عقلية. ويركز هوفر في دراسته على قضية “الصفات الاختيارية” لله عند ابن تيمية، ليبين لنا أن الأخير كان لا يرمي إلى رد الحجج العقلية في حد ذاتها بقدر ما كان يهدف إلى طرح بديله العقلي.
وربما كانت مزاوجة ابن تيمية بين العقل والنقل هي الأكثر تميزًا في فكره الديني، وهي المسألة التي ركز عليها محمد سعيد أوزرفارلي، والذي اصطلح عليها بـ : “العقلانية القرآنية”. وبالنسبة إلى ابن تيمية فإن الأدلة العقلية والنقلية تعتبر معًا عناصر مكمِّلة للمعرفة، بحيث لا يمكن فصلها عن بعضها في الحقيقة، فالعقل لا يناقض النقل ولا يمكنه ذلك، لأن الوحي بشموله وصحته يحتوي في ذاته على الأسس العقلية الكاملة والمثالية.
لم ينكر ابن تيمية أبدًا سلطة العقل ودوره في بيان صحة مصادر الوحي المنزّل والمروي. وعلى عكس المحدّثين الأوائل، فقد بحث ابن تيمية المسائل العقدية والفلسفية بتوسع وإسهاب، وكان في حوار مستمر مع الكتابات الفلسفية. ويرى أوزرفارلي أنه ينبغي النظر إلى فكر ابن تيمية بوصفه مضادًا لذلك التأثير المتزايد للفلسفة في الخطاب العقدي، والذي واجهه ابن تيمية من خلال إحيائه لمنهج المحدثين بطريقة فلسفية. وبهذا يصبح العقل ضروريًا مثل النقل.
وفي دراستها عن جدل ابن تيمية مع متكلمي الأشاعرة تصوغ لنا رشا العمري أسس ابن تيمية التي ترى أنها ثيولوجية وإبستيمولوجية في آن معًا. أحد هذه الأسس هو ما أشار له أوزرفارلي بتوافق العقل والنقل. ويتمثل الأساس الثاني في فهم السلف الذي يرى ابن تيمية أنه أسس لتوافق العقل والنقل. وعلى الرغم من أن آراء ابن تيمية تمثل قطيعة راديكالية مع المنهج العقدي الذي كان سائدًا في عصره، إلا أن ابن تيمية لا يرى فيها أي شيء جديد؛ بل إنه يرى أن دوره يتمثل في استرجاع تلك الوحدة القائمة بين العقل والنقل التي دافع عنها السلف. ولا يرى ابن تيمية أنه ينتمي لأي من المدارس العقدية التي عاصرها، فهو يتعامل معها من موقع الباحث المدقق فيقبل منها ويرفض. وتضرب رشا العمري مثالاً لذلك بما جرى في محاكمته الأولى في دمشق حين استعان بتوافق الرؤية الأشعرية مع منهج السلف في قضية التأويل، لكنه عاد وهاجم نفس الرؤية في موقفها من قضية صفات الله وأدلة إثبات وجود الله.
الهرمنيوطيقا كانت موضع المعالجة في المبحث الثالث من مباحث الكتاب، وهو المبحث الذي يضم ورقتين بحثيتين؛ أولاهما ورقة وليد صالح المعنونة بـ: “ابن تيمية وظهور الهرمنيوطيقا الراديكالية: دراسة تحليلة لمقدمة التفسير”، أما الورقة الثانية فهي ورقة ليفنت هولتزمان، وهي بعنوان: “الاختيار والقضاء والقدر والفطرة: استعمال ابن تيمية وابن القيم للحديث عن الكتب العقدية”.
بحسب وليد صالح، فإن أوضح صياغة لسلفية ابن تيمية نجدها في مقدمة في أصول التفسير. بحث صالح إبسيتمولوجيا ابن تيمية القائمة على السلف، باعتبارها بديلاً لما استقر عليه الدرس التفسيري الذي كان قائمًا على الفيلولوجيا؛ فبدلاً من البحث الموسوعي عن المعاني الممكنة لكلمات القرآن، فإن ابن تيمية يرى أنه علينا أن نبحث في التفسير الذي نُقل إلينا عن القرون الأولى، لأن فهم السلف للقرآن هو بالضرورة أعلى من فهم غيرهم من الأجيال التالية. ويرى صالح أن اهتمام ابن تيمية في مقدمة أصول التفسير منصب على الإبستيمولوجيا بدلاً من تفاصيل العقيدة والفقه، والتوجه العام الذي نجده في المقدمة هو أن آراء السلف هي بالضرورة أصوب وأصح من آراء الأجيال التي جاءت من بعد. لكن صالح يستدرك على المقدمة السابقة بالقول إن سلفية ابن تيمية –مع ذلك- سلفية متحررة، فبقدر ما كانت توقر الأجيال الأولى من المجتمع الإسلامي، فإنها كانت تسعى إلى تقويض سلطة التفسيرات المتأخرة.
اجتهادات ابن تيمية الفقهية كانت محور المبحث الثالث والذي يضم ورقة يوسف ربوبورت المعنونة بـ: “المنهج الفقهي الراديكالي لابن تيمية: العقلانية واختلاف الآراء واعتبار النية”.
في هذه الدراسة التي تناولت ابن تيمية بوصفه فقيهًا بالإضافة إلى دراسة راكيل يوكلاس عن جدلية التشدد والتسامح عند ابن تيمية في ضوء نقاشات القرن العشرين حول قضية الاحتفال بالمولد النبوي، ركز الباحثان على هذه الجدلية التي تظهر في فكر ابن تيمية. فهو من ناحية شديد الأصولية والتشدد، ولا يقبل أي شكل من أشكال البدعة. ولكنه في نفس الوقت تمتزج مثاليته ببراغماتيته حين يتعاطف مع مقاصد أولئك الذين يقعون في الإثم. وإلى نفس هذا المعنى يشير ربوبورت الذي ركز على هذه النزعة البراغماتية والتي نجدها منتشرة في منهجه. ويمثل موقف ابن تيمية من التدين الشعبي نموذجًا جيدًا لهذه الجديلة التي تنتظم فيها أفكاره بين الأصولية والبراغماتية، فابن تيمية يدرس العناصر الإيجابية والسلبية لهذا التدين ببراغماتية، ولكن دون التنازل عن المثالية التي يسعى إليها.
وقد وجدت منى حسان هذه المقاربة التيمية نفسها في النظرية السياسية حينما تناولت مفهوم الخلافة عند ابن تيمية في ورقتها المعنونة بـ: “القراءات المعاصرة والقراءات الخاطئة لعالم من العصر الوسيط: فهم الفكر السياسي لابن تيمية”. بحثت حسَّان في الدراسات المعاصرة التي ألِّفت في الفكر السياسي لابن تيمية، وكانت البداية مع لاووست، والذي ادعى خطأ أن ابن تيمية كان يرى في الخلافة أمرًا قد عفى عليه الزمن. وقد أوضحت حسان أن ابن تيمية يعتبر مؤسسة الخلافة –كما كانت عليه في عهد الخلفاء الراشدين- نموذجًا أخلاقيًا وفقهيًا لا ينبغي التخلي عنه واستبداله بمؤسسىة الملك. لكن ابن تيمية كذلك يعترض على أولئك المبالغين في التقوى الذين ينأون بأنفسهم عن المشاركة السياسية بحجة غياب النموذج الأمثل للخلافة العادلة. ويرى ابن تيمية أنه ينبغي على المرء أن يقيم إيجابيات سلوك الحكام وسلبياتها بطريقة براغماتية، دون أن يغيب عن ذهنه نموذج السنة.
وعلى النقيض مما مضى، فلا نجد آثرًا لبراغماتية ابن تيمية فيما كتبه من جدل ضد الشيعة والنصارى، فضلاً عن التعاطف معهما. وفي دراسته لكتاب منهاج السنة وجد طارق الجميل جانبًا متشددًا في فكر ابن تيمية. ويشير الجميل إلى أن نقد ابن تيمية للشيعة يندرج ضمن الإطار العام لنقده للبدع، لكن شدة انتقاده للشيعة يمكن أن تُفسر أيضًا من خلال السياقات الفكرية والسياسية التي عاشها.
يعتبر ابن تيمية، وباجماع عالمي تقريبًا- من المفكرين المبدعين وممن كان لهم منهج منتظم في تاريخ الإسلام. ولمكانته المتميزة فإن قراءة ابن تيمية تمنح شعورًا بالتحدي الفكري، بل هو أكثر من ذلك؛ إذ بسبب المكانة الراهنة التي يحتلها في الخطابات الإسلامية المعاصرة، فإن القراءة الصحيحة لمدونته تهم مستقبل الإسلام وعلاقته مع غير المسلمين. ويختم المحرران بالقول أنه سواء أحببنا ابن تيمية أم لم نجبه، فإن ابن تيمية يبدو أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى.