أُفول أهل السُّنَّة: التهجير الطائفي وميليشيات الموت وحياة المنفى بعد الغزو الأمريكي للعراق

يقول الدكتور رضوان السيِّد في تقديمه لهذا الكتاب المؤلم أن العراق شهد موجات تجريف سكاني وسياسي امتدت على ثلاث مراحل: مرحلة الثمانينيات والتي تعاصرت مع الحرب العراقية – الإيرانية، والتي انصبت على الشيعة والأكراد، فضربت مقومات بقاء العراق موحدًا، سكانًا وشعبًا. ومرحلة التسعينيات بعد حرب الكويت، والتي أعقبها حصارٌ دولي هائل ضرب مقومات الدولة بعد أن ضُربت في الثمانينيات مقومات المجتمع. ومرحلة الاحتلال الأمريكي وسقوط الدولة العراقية وما تبقى من المقومات الاجتماعية والإنسانية.

يُعالج هذا الكتاب أحداث وتطورات المرحلة الثالثة هذه (2003 – 2010)، وقد راقبت المؤلفة عمليات تفكَّك المجتمع وانتقال السلطة هذه عبر ثلاثة مداخل:

– مدخل التهجير السكاني الشامل، هجرة وتهجير مليونيّ سني من العراق بين عامي 2003 – 2006، مع أن الهجرةلم تقتصر عليهم بل طالت المسيحيين والشيعة ممن اعتُبروا من أتباع النظام السابق.

– مدخل القتل المستهدف، من جانب المسلحين المليشياويين والاستخبارات الإيرانية، وكان المقصود بهذا النوع من الاستهداف القاتل تصفية النخب العراقية الدولية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ثم صار القتل عشوائيًا بعد عام 2005 من أجل النهب والسلب والدفع إلى الهجرة وتكوين مناطق صافية طائفيًا.

– مدخل تكوين أجهزة عسكرية وشرطية وأمنية شبه طائفية أو طائفية بحتة لعزل السنة عن إمكانيات المشاركة، ودفعهم باتجاه التهميش، أو اليأس والخروج من البلاد.

لم تستطع الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينيات أن تحيي الصراع بين السنة والشيعة، رغم الجهود المبذولة من جانب الطرفين المتقاتلين. لكن النزاعات في العراق بعد الاحتلال تمكنت من ذلك. وهكذا يمكن القول إن الصراع الناشب بين السنة والشيعة حتى اليوم، والذي تتواجه فيه التنظيمات التي شكلتها الدولة الإيرانية في البلاد العربية، مع الموجة الثانية من موجات الجهادية السنية هو من بين أهم تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق. أما التداعي الأخر فهو تغيّر العراق العربي تغيرًا جذريًا، لحدوث اختلال شبه كامل في بنيته السكانية والاجتماعية والوطنية.

تقدم المؤلفة لكتابها بالعودة إلى لحظة خطاب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما للعالم الإسلا منمي على منصة جامعة القاهرة في يونيو 2009 التي أوصى فيها “بضرورة رأب الصدع بين المسلمين”، وبخاصة بين السنة والشيعة، وهو صدعٌ تاريخي راكد في أغلب الأوقات، أظهرته على السطح مجددًا الحرب على العراق بقيادة الولايات المتحدة.

وترى المؤلفة أنه يجب أن يبدأ رأب الصدع بين السنة والشيعة في العراق الذي نادرًا ما أتى ذكره على لسان أوباما بوصفه أكثر أماكن الانقسام السني الشيعي حدة؛ حيث تُقدّر نسبة العرب السنة بستين في المائة من اللاجئين، والنصارى بنسبة خمسة عشر في المائة، وقد عانت نسب أقل من الشيعة العلمانيين والصابئة واليزيديين والأكراد من حرب أهلية وخشية وضعت السلطة في أيدي القوميين الشيعة.وحتى عام 2009 لم يعد إلى العراق سوى خمسة في المائة من إجمالي مليوني عراقي فروا من البلاد، وذلك لعدم وضع حلول للمشكلات الأساسية التي تذكي جذوة التمرد والحرب الأهلية.

لكن موجة النزوح العراقي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبقتها موجة أولى نزح فيها ما يقرب من خمسة ملايين عراقي طوال عهد صدام حسين، وأتت الموجة الأولى على شكل تدفق بطيء للمعارضين السياسيين، لكن الموجة الثانية كانت أسرع وأشد وأقصى إذ تشرد العدد نفسه تقريبًا في أقل من خمس سنوات عقب الاحتلال وانهيار دولة العراق. وقد بدأت الهجرة بنسب قليلة عام 2004 لكن الصراع الميليشياوي السني الشيعي رفع وتير الهجرة والتشريد مجددًا في 2007. وتركز النزوح على الطبقة المهنية؛ الأطباء والعلماء والشعراء وأساتذة الجامعات والممثلين والحرفيين، التي كانت تشكل أفضل أمل لجعل العراق مكانًا أفضل. وبحلول عام 2007 كانت الغالبية العظمى من النازحين بنسبة تتجاوز سبعين في المائة تتشكّل من مهنيي وخبراء العراق الذين أدى رحيلهم إلى إصابة حكومة العراق بالشلل، وفي النهاية أصبح سدس العراقيين تقريبًا لاجئين أو مشردين.

تعتمد المؤلفة في سردها لإظهار حجم الكارثة التي حلت بالعراق على التفاصيل اليومية والتهديدات الخاصة التي أشعلت سياسة التشريد، ويمكن اعتبار هذا الكتاب رحلة لتوثيق النزوح الجماعي العراقي تنقلت فيها المؤلفة بين المنافي العراقية الجديدة في دمشق وعمّان وبيروت لتوثيق قصصهم وروايتها عنهم.

ويدور أحد الأسئلة التي يطرحها هذا الكتاب حول رغبة السلطة الجديدة في بغداد عقب انسحاب الأمريكيين في تصحيح الأوضاع وعودة المهجّرين. ومع تطلّع المنفيين لبادرة تعكس اهتمام الحكومة بمحنتهم، لم يكن التسجيل لدى وزارة المهجرين كافيًا لطمأنتهم. ويطرح اللاجئون أسئلة أساسية حول هوية العراق وهل يمكن لدولة علمانية حديثة تأكيد نفسها كبديل للفصائل الطائفية المتحاربة.

اللاجئون العراقيون في الأردن:كان الأردن على الدوام ملاذًا للعراقيين طوال حكم صدام، وأثناء حرب الخليج عام 1991 عبر الحدود الأردنية أكثر من مليون لاجئ، ومع حب الأردنيين لصدام فضل اللاجئون العراقيون التواري عن الأنظار، وكان صدام يغدق على الصحفيين الأردنيين ليضمن لنفسه تغطية متميزة في الصحافة الأردنية. وفي التسعينيات قام صدام بضخ نفط مجاني لانعاش الاقتصاد الأردني، وهو ما خفف من أعباء دعم اللاجئين العراقيين آنذاك. والآن لم يعد صدام موجودًا والأردن ليس لديها ما تدعم به الموجة الجديدة من اللاجئين الذين ينتمي أغلبهم للسنة. وأنحى الأردنيون باللائمة على الوافدين الجدد في ارتفاع الأسعار وازدحام المدارس وتضخم سوق الإسكان. كما ضاعف هؤلاء الوافدون الجدد من أزمة المياه التي تخنق البلاد كل صيف، في بلد لا تكاد مياهه تكفي أصحاب البلد أنفسهم.

اللاجئون العراقيون في سورية: الوحيدون الذين كانوا يعودون هم مقاتلوا الميليشيات الشيعية والسنة الذين كانوا يعبرون الحدود بحرية للراحة والاستجمام. وقد قابلت المؤلفة عددًا منهم في دمشق أحدهم كان مزارعًا يمتلك قطعة كبيرة من الأرض الزراعية على أطراف بغداد، والآخر مهندس حكومي سابق لدى وزارة الصناعة، وهما صديقان منذ زمن بعيد وأخبرا المؤلفة أنهما في أجازة في دمشق وسيعودان عمّا قريب لاستئناف قتال الأمريكيين ضمن كتائب المقاومة السنية التي انضما إليها بعد الاحتلال.

في دمشق يسكن العديد من العراقيين في الضواحي النائية عن العاصمة السورية، الأمر الذي جعل من الصعب التمييز بين هذه الضواحي وضواحي بغداد. وقد أصبح الطرف الجنوبي من دمشق يُعرف باسم “بغداد الصغرى. ومن دمشق تروي لنا المؤلفة قصة امرأة عراقية غادرت العراق بعد أن هجرها زوجها، وكانت هدفًا للميليشيات الشيعية المتطرفة لأنها كانت سنية متزوجة من شيعي. ولم تكن الزيجات المختلطة بين السنة والشيعة مستغربة بين أبناء الطبقة المثقة التي كانت تسكن المناطق الحضرية في بغداد أثناء حكم صدام. وفي واقع الأمر لم يُستخدم مصطلح “الزيجات المختلطة” إلا بعد عام 2003، عندما تبنّى العراقيون الهويات الطائفية بشكل كبير.

وتمثلت مأساة تلك المرأة العراقية التي أسمتها المؤلفة: “أم نور” في أنها كانت ملزمة برعاية طفلة وحيدة في المنفى السوري ولم يكن لديها ما تقدمه للعمل، حيث عملت في البداية في صالون لتصفيف الشعر أنشأته لاجئة عراقية أخرى، وكان هذا الصالون غطاءً لممارسة الدعارة، وفي النهاية اضطرت أم نور للعمل في ملهى ليلي لكي تستطيع الانفاق على ابنتها.

في عام 2009 – ولأول مرة منذ اندلاع الحرب – اعترفت دائرة حكومية أمريكية بوجود أزمة لاجئين. وعندما أعلن أوباما عن جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق وصف اللاجئين بأنهم “يمثلون تحدٍ لاستقرار المنطقة”. وأعاد إلى الأذهان صورة الفلسطينيين والأفغان الذين أخرجوا من مخيمات اللاجئين جيلاً يحمل مشاعر الغضب والانتقام، وقد ظلت هذه المشاعرة متأججة في المنطقة إلى يومنا هذا.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.